النفط والعولمة: رؤية ثلاثية الابعاد

د. مظهر محمد صالح

13/08/2018

الجزء١

العولمة وأسواق الطاقة

لا تختلف ازمة اسواق الطاقة كثيرا عن ازمة اسواق المال عند تعرضهما للاخفاقات السعرية المؤثرة في استدامة النمو والاستقرار الاقتصادي، فانهيار الاسواق المالية العالمية في ازمة العام 2008لا تختلف في آثارها السلبية على النشاط الاقتصادي في بلدانها عما تعرضت اليه اسواق الطاقة من انهيارات سعرية منذ منتصف العام 2014 وحتى منتصف ٢٠١٧ وأثر ذلك في تفاقم الضائقة الاقتصادية التي تعرضت اليها البلدان المنتجة للنفط  بما فيها العراق حتى وقت قريب، فمازال المدافعون عن العولمة يرون فيها بأنها الحل الوحيد في التصدي للمشكلات الاقتصادية العالمية الخطيرة كالتلوث والفقر والامراض وسوء التغذية وتزايد المجاعة، وان ثمة مليار انسان حول العالم يعاني قلة حصوله على المياه النظيفة.هنالك مشكلات اقتصادية لاتحل نفسها بنفسها، ولا مناص من مواجهتها واحتوائها بكونها من النواقص التي لا تلائم اخلاقيات ومبادئ عصر العولمة، وبالرغم من ذلك يبقى التساؤل المهم:هل العولمة متحيزة في سياساتها وتعمل من طرف واحد في مواجهة مشكلات الاقتصاد العالمي؟. كلنا يتذكر تعرض المصارف وشركات التأمين الكبرى في نيويورك الى سلسلة من الافلاسات والانهيارات المالية في مطلع خريف العام 2008 حيث اضطرت حكومة الولايات المتحدة بالتوجه الى البنوك المركزية في دول العالم ،ابتداءً من البنك المركزي الاوروبي في فرانكفورت وانتهاءً بالبنك المركزي الياباني في طوكيو وهي تحثهم على تفكيك مايسمى بفخ السيولة الذي كبل الاقتصاد العالمي، وذلك عن طريق تعظيم الاصدار النقدي ( في اطار ما سُمي بسياسات التيسير الكمي) بغية تجنيب العالم مخاطر الركود والتدهورالاقتصادي عن طريق تدوير الائتمانات وتحريك عجلة النشاط الاقتصادي الدولي. ولاننسى المثال الشهير الذي ساقه الاقتصادي (راندي إيبنك) في كتابه (اقتصاد القرن الحادي والعشرين)،إذ يوضح راندي الاقتصاد المعولم في وقت الاًزمة، قائلاً:"عندما تريد الضفدع الجلوس في إناء من الماء الساخن فأنها ستقفز حالاً خارج الاناء خشية موتها! ولكن عندما ترقد الضفدع مسترخيةً في إناء من ماء بارد ترتفع سخونته تدريجياً حتى يصبح شديد الغليان فان الضفدع سيطفو ميتاً داخل ذلك الاناء".فسكوت العولمة اليوم امام تدهور السوق النفطية ودخول مجموعة الدول النفطية في عجز في موازناتها المالية وموازين مدفوعاتها  في وقت مازال معظمها يسترخي في اناء الركود والبطالة او العوز الشديدين دون ان تبادر الدول الصناعية بتقديم يد المساعدة العاجلة في قروض ميسرة ولو عن طريق مايسمى باتفاقات التبادل النقدي بمعنى ان تضع البلدان الصناعية ودائع كافية لدى مصارف البلدان النفطية لتستخدمها في سد احتياجاتها ،لمواجهة ازمتها المالية الراهنة، اذا ما كانت العولمة متعددة الاطراف حقاً ام لا. ختاما،ان ماقامت به البلدان الصناعية من اجراءات نقدية توسعية عبر بنوكها المركزية  لمواجهة مشكلاتها الاقتصادية الحادة جعلها تقفز كالضفدع من اناء الماء الساخن لتنعم باذرع العولمة وروافعها المالية الواسعة المتعددة الاطراف .اما البلدان النفطية فانها مازالت مسترخية في اناء الماء الدافئ وان ضفادعها مازالت تنتظر حتى يغلي ذلك الماء في إنائها! انها العولمة، لكنها من طرف واحد!

 

الجزء٢

رؤية النفطية الامريكية

خلال سفرة الى سان فرانسيسكو في خريف 2015  سألت الفريق المالي المفاوض الذي اجرى المشاورات معنا حول سبل اقتراض العراق من سوق راس المال العالمية وكان الفريق المذكور يمثل شركة استثمار عالمية تدير محفظة مالية قدرها واحد ونيف تريليون دولار.
والسؤال كان مباشراً :هل ان النفط الصخري يتلقى دعما سعريا من الحكومة الاتحادية الاميركية؟
كان الجواب مقتضباً: بان عوائد انتاج شركات النفط الصخري الاميركية  معفاة من الضرائب...!
هنا غدت لي قضية النفط  وانخفاض اسعاره اكثر وضوحاً  ...مستنتجاً منها مايأتي:
ان من مصلحة الولايات المتحدة الاميركية (كدولة عظمى) مازالت تمسك بزمام النفوذ واللعبة الستراتيجية في الهيمنة على العالم، ان تحافظ على  امداد مخزوناتها النفطية في واحدة من مصادرها الداخلية (النفط الصخري) كنفوط محلية حتى وان كانت مرتفعة الكلفة خيرا لها من الاعتماد الكلي على استيرادات نفطية خارجية  مرتفعة الثمن تولد فوائض مالية لقوى دولية غير مرغوبة  في تحريك لعبة الامم وإضعاف القطب الواحد.
هذا هو جُل الحقيقة..!
فبدلا من ان تتراكم فوائض مالية لدى بلدان نفطية ،تشكل معسكراً غير مريح لاميركا من الناحية الستراتيجية  ، فانها ستُحمل الاخرين كلفة او خسائر الانخفاض في اسعار النفط العالمي من خلال المحافظة الجادة على (فيضان المعروض النفطي) الواطئ المرونة وعده بديلا لفوائض اموال النفط (الدولار النفطي الفائض) لقاء تعظيم حصولها على نفط (داخلي) متدفق وان كان بكلفة استخراجية عالية  كالنفط الصخري  . 
والغاية ان لاتكون فوائض النفط للبلدان المصدرة بمثابة متغير خارجي سالب في معادلة نفوذ الولايات المتحدة او بيد قوى مؤثرة في ديمومة قواعد لعبة السياسة الخارجية للولايات المتحدة او القطب الواحد.
الخلاصة: ان كلفة حصول اميركا على النفط الخام من مصادره الداخلية وبناء مخزوناتها من النفط الصخري المرتفع الكلفة على المدى المتوسط في سياسة الطاقة الاميركية تعد خيراً من الاعتماد التام والكلي على النفوط المستوردة المرتفعة الثمن والتي كانت تحقق في الوقت نفسه فوائض مالية شكلت على مدار نصف قرن من الزمن اداة قلقة في اللعبة الستراتيجية الدولية لاسيما مجموعة الدول التي هي اليوم خارج نفوذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة ومنذ انتهاء الحرب الباردة ودخولها في حرب جديدة هي حرب الاسعار...! .
وهكذا انقلبت الفرصة البديلة للحصول على فوائض مالية نفطية لمجموعة بلدان اوبك اوغيرها لتتحول الى مزايا بيد الدول المستهلكة للنفط بما فيها قطاع الاستهلاك النفطي الاميركي نفسه.
ختاما،تعد الولايات المتحدة الاميركية اليوم ،على الرغم من كونها اكبر مستهلك للنفط في العالم، واحدة من اكبر الدول المنتجة له ،والتي مازالت من اكبرالدول المستوردة  للنفط...ولكن النفط المستورد الفائض الرخيص...او النفط بأسعار مدارة مسيطر عليها ولمصلحة استقرار اسواقها القوية المستهلكة للطاقة.

 

الجزء٣
الرؤية العراقية

تنطلق رغبة العراق بان لاتتجاوز الدول المنتجة والمصدرة للنفط ( بلدان الاوبك على وجه الخصوص  )الحصص  المحددة  لها بسقوف الانتاج. هو اجراء يجده العراق أساساً جوهرياً لأحداث التوازن في السوق النفطية العالمية ومن ثم ابعاد شركات الدول المنتجة  للنفط من توليد اَي عرض فائض من الخام والإخلال باستقرارها او ارباك خطط الاستثمار والتطوير والإنتاج في قطاع الطاقة فيها ، لاسيما ان  البلدان الكبيرة المستهلكة للنفط في النصف الشمالي من الكرة الارضيّة ذات الطلب المرتفع على النفط ومشتقاته  ،قد دخلت موسم  الصيف  الذي ينكمش فيه الطلب على النفط الخام  نسبياً  وان احد اسباب ذلك هو اجراء  عمليات الصيانة السنوية الكبرى على المصافي  الطالبة للنفط الخام .حيث تجري في هذه الأوقات من العام تلك العمليات الاساسية الروتينية في إدامة معامل التكرير  وملحقاتها مما يعطل الطلب موسميا بصورة جزئية.
كما ان نجاح ستراتيجية منظمة الاوبك في المدة الماضية بإقناع الشركات النفطية للدول العظمى   من خارج الاوبك(روسيا والولايات المتحدة) بالمحافظة على ضبط الانتاج لبلوغ السعر التوازني في سوق النفط  قد شجع الجميع بالسعي على تجنب احداث اغراق او توليد فائض في المعروض النفطي ومن ثم توليد فقاعة سعرية سالبة باتجاه انخفاض الأسعار واحداث أضرار في العوائد المالية النفطية  ، لاسيما  بعد ادراك أهمية التحسن الذي جرى في أسعار النفط العالمية وبلوغها مستويات ساعدت  حقاً  في ازالة الركود النسبي في الاقتصاد العالمي .
اذ لوحظ ان استمرار أزمة أسعار النفط وتدهور أسعاره خلال السنوات الأربع الماضية  لم تقل في اثارها الانكماشية على الاقتصاد الدولي عن أزمة الرهن العقاري الاميركية في2008.
فكلاهما قادتا الى ركود جامح في الاقتصاد العالمي  ذلك طالما ان الاسواق العالمية  التي تتداول الأصول المالية  فيها  وذات العلاقة  بالطاقة(بما في ذلك عقود النفط الاجلة والفورية) قد انحرفت  وجنحت  عن قواعدها وقوانينها التي ابتعدت عن نقطة توازن السوق  وأثرت في ذلك على استقرار أسواق العالم كافة الواحدة تلت الاخرى وأدخلت الاقتصاد العالمي بأحد أوجه الركود الشامل  بسب انكماش الطلب الدولي  عموماً على السلع والخدمات والكثير من عوامل الانتاج والاستثمارات الدولية بالغالب . كما  أكدت الاحداث الاقتصادية المنقضية ان استمرار مظاهر العجز في الحساب  الجاري لموازين مدفوعات الدول المصدرة للنفط (بسبب تدني أسعار النفط )سيؤدي لا محالة الى تدهور الطلب الكلي العالمي المباشر اوالمشتق وتحديداً  تدهور الطلب على المنتجات الصناعية العالمية  وعموم الاستثمارات وهو ما احدث ركوداً مشتقاً ومباشراً في النشاط الصناعي العالمي واربك الاسواق الدولية طوال السنوات الماضية.
وهكذا،فقد برهنت التجربة الاقتصادية   ان انتعاش أسواق النفط وبلوغ  الأسعار نقاط تعادلها التي تعدت الْيَوْمَ  70 دولارا للبرميل الواحد من النفط الخام  هي المستويات السعرية  التي قربت الاسواق الى التوازن وازالت  عجز موازين مدفوعات البلدان النفطية ،وهي في الوقت نفسه اشرت  واحدة من القوى السعرية  الفاعلة في ادامةً انتعاش الاقتصاد العالمي ورفع  معدلات نموه.  لذا سيظل التوازن والاستقرار العالمي في استدامة طالما ظلت أسواق النفط مستقرة ومبتعدةً عن الاضطربات السعرية.   فاستقرار  سوق الطاقة هي احد اهم  بديهيات  الحفاظ على النمو  الاقتصادي العالمي وأبعاده من شبح الركود والكساد الطويل الأجل .
وأخيراً: وقدر تعلق الامر برغبة العراق في مسالةً سقوف الانتاج فان خطط التطوير النفطي وبلوغ سقف إنتاجي بنحو 6 ملايين برميل نفط خام يومياً  في عام 2022 (وعلى وفق ما أشرته  خطة التنمية الوطنية للعراق 2018 - 2022)يقتضي ان تنمو سقوف الانتاج العالمي وترتفع بانتظام وبقدر درجة النمو في الاقتصاد العالمي وتطور درجته وما يرتبط به من نمو مشتق في الطلب على موارد الطاقة وبشكل خاص النفط الخام . فتحديد السقوف الإنتاجية هي ظاهرة  نسبية تتغير بالتدريج من دون احداث فائض في عرض النفط الخام ومايخلفه  من هبط حاد في أسعار النفط .
فالالتزام بالسقوف المحددة لا يعني التوقف عن تعظيم مخرجات العملية الإنتاجية سنويا ونمو سقوفها سنوياً طالما ان العملية الإنتاجية والاستثمارية مستمرة.
وما يطلبه العراق هو تجنب توليد عرض نفطي فائض يقود الى تدهور أسعار النفط وعوائده .وان مثل هذا التدهور اذا ماحدث سيسبب اغراق السوق وما يولده من ظاهرة  خطيرة تسمى بحرب الأسعار .وهي  الظاهرة التي اذا ما حصلت فإنها لا تسمحً  مستقبلاً  بتكريس جزء من العوائد النفطية الوطنية وتخصيصها  لأغراض الاستثمار في الحقول والمكامن النفطية  الجديدة او عمليات التطوير والتوسعات في الرقع الجغرافية النفطية   لبلوغ هدف انتاج 6ملايين برميل يومياً في سنة 2022.فمن هذا المنطلق لا يرغب العراق بالتصرف غير المنضبط في تعظيم الانتاج النفطي من دون تفاهم مشترك من جانب الأعضاء في منظمة البلدان المنتجة والمصدرة للنفط (أوبك )او حتى غيرها لإيجاد توازن في الكميات المنتجة والحفاظ على استقرار سوق الطاقة.

انتهى

المصدر// الحوار المتمدن

ترددات نوا

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group