كانَ المنظرُ شديدَ الوضوحِ ، ليسَ بسبب القنديل الباهت الذي يقف على ساقٍ طويلةٍ نابتةٍ بباب الدار ، بل بنعمة ذلك القمر الجميل المكتمل ، الذي يكاد يلمسُ رأسَ البناء المهجور القائم بمفتتَحِ الزقاق ، مثل حارسٍ اسطوريٍّ مجرورٍ من ملحمةٍ منسية . انقطعَ المطرُ تماماً ، فصارَ البردُ من الصنف الذي يعضُّ العظمَ وينامُ ببطنِهِ . لم أكن في حلمٍ أبداً ولا على سكرةٍ خراجها من فم زجاجةٍ عتّقتها السنين ، فصار شاربها مضحكةً مجانيةً لأوغادٍ يسكرون . أشهرتُ كفي أمام عيني فوجدتُ خمس أصابع نابتات راسخات ، وقرصتُ خدّي فساح دمي بماعونٍ مبين . رأيتُ في ما رأيت ، جمعَ قططٍ في الزقاق القصير ، تموء وتهرهر وتتغنوج وتحكّ ظهورها في الحوائط التي اخشوشنت بزخيخ الأيام وعلى باب الحاوية الكبرى ، كما لو أنها قد اشتبهت بين الشبّاط واللبّاط والربّاط ، وإذ فررتُ أذني وبوصلتُ رأسي ورميت الحشد الهائج بسؤال اليقين ، زاد الهرير واتصل المواء بالمواء ، فعدت الى عقلي بخفّي بهلول !! ثم أنني شلتُ صباحي المنعش ووضعتُهُ تحت ابطي الشمال ، وتساندَ يميني بعكّازٍ دخل المقهى قبل ذراعين مني ، وسلمتُ على القوم الكسالى وكبيرهم السمين الذي فتح فمه الرحيم متثائباً وردَّ عليَّ بهواءٍ بائتٍ على بعض نتانة ، فجلستُ لصقَهُ واستمزجتُهُ بقصّ رؤياي عليه والدائرة التي تسوّر عمود المكان ، فاكفهرَّ وجهُهُ العريض وصاحَ بي ، ألم أنصحكَ من قبل ومن بعد بأنْ لا تقصص هلوساتك على صحبك فيضحكون بهزّ الأكتاف ويتململون بتدوير العجائز ، ثم يقومون على طولهم الفارع ، فيشيلونك من لحيتك ومن سالفيك ويلعبون برأسك طوبةً ليس فيها منجى من ركلة على الخاصرة ، بل ما هي إلا بعارير سفهاء ، فابلع لسانك واحفظ مقامك وفز بالصمت والفائدة . سكتُّ ولم أقل أفّاً ولا مثقال آخٍ ، وتركتُ معلمي على رسله وراحته وهو يُخرج من جيبه الغائر مخيط الخياط ويغرسه في أُذني ، فيصير مكاناً آمناً لقرط النصيحة الذهب !!