صارَ المقالُ قصةً

علي السوداني

28/04/2020

كانَ‭ ‬المنظرُ‭ ‬شديدَ‭ ‬الوضوحِ‭ ‬،‭ ‬ليسَ‭ ‬بسبب‭ ‬القنديل‭ ‬الباهت‭ ‬الذي‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬ساقٍ‭ ‬طويلةٍ‭ ‬نابتةٍ‭ ‬بباب‭ ‬الدار‭ ‬،‭ ‬بل‭ ‬بنعمة‭ ‬ذلك‭ ‬القمر‭ ‬الجميل‭ ‬المكتمل‭ ‬،‭ ‬الذي‭ ‬يكاد‭ ‬يلمسُ‭ ‬رأسَ‭ ‬البناء‭ ‬المهجور‭ ‬القائم‭ ‬بمفتتَحِ‭ ‬الزقاق‭ ‬،‭ ‬مثل‭ ‬حارسٍ‭ ‬اسطوريٍّ‭  ‬مجرورٍ‭ ‬من‭ ‬ملحمةٍ‭ ‬منسية‭ .‬
انقطعَ‭ ‬المطرُ‭ ‬تماماً‭ ‬،‭ ‬فصارَ‭ ‬البردُ‭ ‬من‭ ‬الصنف‭ ‬الذي‭ ‬يعضُّ‭ ‬العظمَ‭ ‬وينامُ‭ ‬ببطنِهِ‭ .‬
لم‭ ‬أكن‭ ‬في‭ ‬حلمٍ‭ ‬أبداً‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬سكرةٍ‭ ‬خراجها‭ ‬من‭ ‬فم‭ ‬زجاجةٍ‭ ‬عتّقتها‭ ‬السنين‭ ‬،‭ ‬فصار‭ ‬شاربها‭ ‬مضحكةً‭ ‬مجانيةً‭ ‬لأوغادٍ‭ ‬يسكرون‭ .‬
أشهرتُ‭ ‬كفي‭ ‬أمام‭ ‬عيني‭ ‬فوجدتُ‭ ‬خمس‭ ‬أصابع‭ ‬نابتات‭ ‬راسخات‭ ‬،‭ ‬وقرصتُ‭ ‬خدّي‭ ‬فساح‭ ‬دمي‭ ‬بماعونٍ‭ ‬مبين‭ .‬
رأيتُ‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬رأيت‭ ‬،‭ ‬جمعَ‭ ‬قططٍ‭ ‬في‭ ‬الزقاق‭ ‬القصير‭ ‬،‭ ‬تموء‭ ‬وتهرهر‭ ‬وتتغنوج‭ ‬وتحكّ‭ ‬ظهورها‭ ‬في‭ ‬الحوائط‭ ‬التي‭ ‬اخشوشنت‭ ‬بزخيخ‭ ‬الأيام‭ ‬وعلى‭ ‬باب‭ ‬الحاوية‭ ‬الكبرى‭ ‬،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬اشتبهت‭ ‬بين‭ ‬الشبّاط‭ ‬واللبّاط‭ ‬والربّاط‭ ‬،‭ ‬وإذ‭ ‬فررتُ‭ ‬أذني‭ ‬وبوصلتُ‭ ‬رأسي‭ ‬ورميت‭ ‬الحشد‭ ‬الهائج‭ ‬بسؤال‭ ‬اليقين‭ ‬،‭ ‬زاد‭ ‬الهرير‭ ‬واتصل‭ ‬المواء‭ ‬بالمواء‭ ‬،‭ ‬فعدت‭ ‬الى‭ ‬عقلي‭ ‬بخفّي‭ ‬بهلول‭ ‬‭!!‬
ثم‭ ‬أنني‭ ‬شلتُ‭ ‬صباحي‭ ‬المنعش‭ ‬ووضعتُهُ‭ ‬تحت‭ ‬ابطي‭ ‬الشمال‭ ‬،‭ ‬وتساندَ‭ ‬يميني‭ ‬بعكّازٍ‭ ‬دخل‭ ‬المقهى‭ ‬قبل‭ ‬ذراعين‭ ‬مني‭ ‬،‭ ‬وسلمتُ‭ ‬على‭ ‬القوم‭ ‬الكسالى‭ ‬وكبيرهم‭ ‬السمين‭ ‬الذي‭ ‬فتح‭ ‬فمه‭ ‬الرحيم‭ ‬متثائباً‭ ‬وردَّ‭ ‬عليَّ‭ ‬بهواءٍ‭ ‬بائتٍ‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬نتانة‭ ‬،‭ ‬فجلستُ‭ ‬لصقَهُ‭ ‬واستمزجتُهُ‭ ‬بقصّ‭ ‬رؤياي‭ ‬عليه‭ ‬والدائرة‭ ‬التي‭ ‬تسوّر‭ ‬عمود‭ ‬المكان‭ ‬،‭ ‬فاكفهرَّ‭ ‬وجهُهُ‭ ‬العريض‭ ‬وصاحَ‭ ‬بي‭ ‬،‭ ‬ألم‭ ‬أنصحكَ‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ومن‭ ‬بعد‭ ‬بأنْ‭ ‬لا‭ ‬تقصص‭ ‬هلوساتك‭ ‬على‭ ‬صحبك‭ ‬فيضحكون‭ ‬بهزّ‭ ‬الأكتاف‭ ‬ويتململون‭ ‬بتدوير‭ ‬العجائز‭ ‬،‭ ‬ثم‭ ‬يقومون‭ ‬على‭ ‬طولهم‭ ‬الفارع‭ ‬،‭ ‬فيشيلونك‭ ‬من‭ ‬لحيتك‭ ‬ومن‭ ‬سالفيك‭ ‬ويلعبون‭ ‬برأسك‭ ‬طوبةً‭ ‬ليس‭ ‬فيها‭ ‬منجى‭ ‬من‭ ‬ركلة‭ ‬على‭ ‬الخاصرة‭ ‬،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬بعارير‭ ‬سفهاء‭ ‬،‭ ‬فابلع‭ ‬لسانك‭ ‬واحفظ‭ ‬مقامك‭ ‬وفز‭ ‬بالصمت‭ ‬والفائدة‭ .‬
سكتُّ‭ ‬ولم‭ ‬أقل‭ ‬أفّاً‭ ‬ولا‭ ‬مثقال‭ ‬آخٍ‭ ‬،‭ ‬وتركتُ‭ ‬معلمي‭ ‬على‭ ‬رسله‭ ‬وراحته‭ ‬وهو‭ ‬يُخرج‭ ‬من‭ ‬جيبه‭ ‬الغائر‭ ‬مخيط‭ ‬الخياط‭ ‬ويغرسه‭ ‬في‭ ‬أُذني‭ ‬،‭ ‬فيصير‭ ‬مكاناً‭ ‬آمناً‭ ‬لقرط‭ ‬النصيحة‭ ‬الذهب‭ ‬!!

ترددات نوا

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group