وكنت حرثتُ الاسبوع الفائت بهذا الباب رصافةً ، ووعدت الكرَّ كرخاً ونبشاً فحطَّ على مائدتي هذا الليل الساكن ، صدرٌ وعجزٌ من خلق شاعر عباسي اسمه عليّ بن الجهم ، الذي قال بين يدي الخليفة المتوكل « عيون المها بين الرصافةِ والجسرِ ، جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري « فأكل هذا البيت البديع كلَّ شعر الشاعر وتجادلت الناس العالمة الفاهمة الناقدة بمسألة وجود الجسر على صفحة دجلة من عدمه . سآتي اليوم على ذكر الباصات التي ركبتها جيئة ورواحاً منذ مفتتح الثمانينيات المحاربة حتى يوم الهجيج الموحش من بغداد العزيزة . كان عنوان مسكن أخي جمعة وانا معه ضائعاً ببستان تمر طيب كثير ، بين الرحمانية ودور السكك التي منها الحيدري والأرامل والمقببات والعطيفية الأولى درة الكرخ ولؤلؤته التي من علاماتها مقهى القبطان المزروعة على عطفة دجلتها وباب دخولها ، وبساتين حجي مهدي وأولاده صادق وجاسم وطعمة وحسوني ، ثم صار عندي موطىء رزق صغير وهو عبارة عن دكان فلافل وشربت أناناس صغير لصق جامع المدلل المعروف ، وقبالة بائع المشويات الطيب والطيبة الذي يسميه المذكراتي أكرم عبد الرزاق المشهداني تسمية طريفة لطيفة هي حمادي أبو الفشافيش ، وهذا فصل إن فتحته الآن لسقطت على ذاكرتي الليلة مطرةُ ضحكات من حميد عبد السامرائي وسفيان المعاضيدي والرسام الجميل سلام محمود ، تشبه الضحك الذي كان ينتجه المرحوم صادق ابن حجي طعمة وابنه أياد وفق ما تبقى من ذاكرة !! هناك كنت أنطر الباص الأحمر ذا الطابقين عموماً ، بموقف تنزرع قبالته غرفة مبنية من طابوق عتيق مفتوحة واجهتها بشبّاك أقرب الى الرازونة ، وفي بطنها حِبٌ فخاري أو حبّانة مغناج ، بها طاسة نحاسية مثقوبة مشدودة الى سلسلة حديدية ، تشرب منها السابلة المارة وأيضاً الفلاحون والفلاحات الكادّون ببساتين المرحوم حجي مهدي المتبسم الحميم . يأتي الباص من جهة الكاظمية والشالجية والطوبجي وعلي الصالح والمنابع في حي الجامعة وحي العدل ، ما يجعل فرصة الصعود سهلة ومتاحة بسبب توفر الخيارات التي منها الباصات الحاملات الأرقام سبعة وسبعين واثنين وتسعين وسبعة عشر وأربعة وعشرين ، وفي هذه المرحلة من الزمان كان الجابي الذي يستحصل أثمان تذاكر الصعود في طريقه للانقراض ، وكانت هذا الباصات تواصل سيرها الهادىء بشارع حيفا بعد التطوير والتفليش ومرحلة المعمار معاذ الآلوسي ، وما هي الا دقائق قليلات حتى نصل ساحة حماد شهاب وعلى مبعدة شمرة عصا نكون قد صرنا بساحة الطلائع وبقايا سوق الجديد ، فييمم السائق البارد وجه الحافلة العالية صوب أول ظهر جسر باب المعظم الحديث ، فنكحل العينين والقلب بمنظر خضر الياس وشموعه بأول المساء ، ودعاء النسوة والصبايا المفطورة قلوبهن بزوج وأخ ووالد وحبيبٍ ذهب الى جبهة الحرب ، ولم تستطع طاسة الماء المسكوبة خلفه أن تعيده الى داره حتى الآن . تنتهي رحلة الباص بساحة الميدان مفتاح ربع بيوت بغداد ، فتقودني قدماي العجولتان الى مقهى حسن عجمي التي كلما ذكرتها ، فقدَ قلبي سنةً من عمره ونصف دمه !! أما الباص أربعة وعشرون فقصته طويلة جداً مثل رحلته ، وسأفرد له فصلاً مثل فصل مقهى حجي خليل بمكمنيها الاثنين عند عمارة الكهرباء العالية بالميدان ، وربما حكاية مدهشة ثانية عن سيارة حمراء رقمها ستة وخمسون وبطلها أنا والشاعر الشقيق ركن الدين يونس حمادة ، وهنا سأرسم نقطة المنتهى وأتوقف عن رسم الذكريات قبل أن يسقط قلبي بين قدمي!!