كورونا: ديالكتيك الحياة أقوى من الفيروسات

حسين الهنداوي

02/04/2020

الديالكتيك هو العقل في جوهره. وهو بالتالي الانسان الحيّ. ولعلها اعظم فكرة حققتها الحضارة البشرية هي تلك التي ابدعها السومريون قبل ستة آلاف سنة، عندما جعلوا العقل والعلم والثقافة في المكانة الأسمى كملاذ عند الشدائد لا سيما الكونية وهو ما أسفر دائما، حتى في الاحداث الميتافيزيقية، الى انتصار الحياة والامل على الموت وفيروساته كافة، ومن هنا المكانة السامية الخالدة التي منحوها لرمز العقل المطلق إله الحكمة أنكي/ أيا الذي اعتقد العراقيون القدماء إنه حامي الجنس البشري من الأخطار الكونية المدمرة والمباغتة كالطوفان وحتى من غضب الآلهة السومرية ذاتها.

ظهور فيروس كورونا يبدو ثورة صغيرة للطبيعة بالمقارنة مع الطوفان بداهة. بيد ان هجومه الحالي يظل بمثابة خطر عظيم على الحياة الإنسانية والمدنية الراهنة. ويكمن عنصر الخطر الأهم في الطابع المباغت للهجوم ما يفسر ضخامة نتائجه المنظورة على كافة المستويات فيما تظل الاخطار غير المنظورة أعظم واشمل بالطبع. فأبرز النتائج المنظورة هو ما نراه من فزع أرغم مئات الملايين على الجلوس حيارى فى بيوتهم فيما هرعت الدول الكبيرة قبل الصغيرة، وفي كل اركان الأرض، الى اغلاق حدودها ومنافذها البرية والجوية والبحرية امام السائحين والزوار بما فيهم المغتربون من مواطنيها، واضعة سكانها في عزلة اجبارية حتى عن افراد عوائلهم أحيانا وفرض السبات القسري على دوائر الدولة والمدارس والجامعات والمصانع والمصارف والمطاعم والمجمعات التجارية والترفيهية والمواصلات الإنتاجية والاقتصاد الى درجة التجمد لولا تسهيلات الانترنت والهاتف والتلفاز، مقلصة حتى البيع والشراء الى الحد الأدنى الضروري جدا لضمان انقاذ الأرواح من الموت، وليس كلها نظرا الى ظهور اصطفافات طبقية وحتى عنصرية في التعامل مع المصابين في بعض المناطق.

ومن نتائجه المنظورة ايضا، لم يعد الذهاب الى الأسواق بل الهرب منها هو الخيار الأفضل لغالبية سكان الأرض الذين تسابقوا بشكل محموم قبلئذ، ووسط دهشة الطيور والطبيعة، على التقاط حتى أسوأ أنواع الرز والحنطة والشعير والمعكرونة والبقوليات والأطعمة المعلبة وورق المناديل والمنظفات لخزنها لليوم الاسود، مرغمين على التضحية بحياة الرخاء والبذخ وحتى الحريات والحقوق الاستهلاكية التي تباهى بتقديسها النظام الرأسمالي الذي اكتسحت عدوانيته العالم، بانها اعظم مكاسبه الى جانب نظامه الصحي المتقدم الذي كاد يقترب من الانهيار.

وهذه، منذ قرن، المرة الأولى التي يشهد فيها تاريخ المجتمعات الرأسمالية المتقدمة هذه الصحوة التضحوية الإجبارية لتلافي خطر عدو مجهول ووضيع الى هذا الحد رغم انه من تناهي الصغر الى حد لا يرى فيه التوصيف الطبي الدقيق الا فقاعة لا تكاد ترى حتى بالمكروسكوب ناهيك عن تاجه المقيت.

من المؤكد ان صحة البشر كانت تبدو حتى قبل أسابيع معدودة، في أحسن احوالها طوال كل التاريخ البشري من جهة تقدم نوعية الكادر الطبي بكل مستوياته ومجالاته لا سيما في الدول الغربية المتقدمة، كما في مستوى ازدهار صناعة الادوية، وانتشار المختبرات العالية الكفاءة التكنولوجية ونوعية الضمانات والاستعدادات وحتى حملات التلقيح الاستباقي في مواجهة الكثير من الامراض والاوبئة العابرة او المزمنة بما فيها الجائحات الكلاسيكية الفتاكة بشكل مدمر سابقا.

بيد ان هذا الفزع العظيم لا سيما في تلك الدول المتقدمة، وهي الأكثر إصابة بالفايروس، وما ترتب عنه من مخاوف جسيمة لن يمر كمجرد أخطر نكسة او أسوأ ازمة في التاريخ البشري الحديث، بل لا بد ان يسفر او يثمر عن تغيرات جوهرية في بنية النظام الدولي السائد، وهي لن تقتصر على تحميل القوى العظمى المهيمنة على العالم المسؤولية الأساسية في انبعاث كورونا بسبب انهماكها بسباقات التسلح وخطط الحروب العسكرية والتجارية والمنافسات المتوحشة على الموارد، والتوقف عن دعم الدفاعات البشرية امام الاخطار الطبيعية، أو الاستماع إلى تحذيرات علماء البيئة ومواردها حول أخطار الانبعاث الحراري وإفساد المناخ انما أيضا ادانة كل من اظهر أنانية مطلقة وحتى استهتارا بمستقبل البشرية كما فعلت الولايات المتحدة الامريكية بانسحابها من اتفاقية المناخ ورفضها الالتزامات التي طلبها العلماء والهيئات العلمية والصحية الدولية المتخصصة.

ولا ريب في كل الأحوال، ان الحياة لن تكون بعد كورونا 2019 كما كانت قبله سواء في المجتمعات الغربية المتقدمة، بل مجتمعات العالم كله تاليا بفعل العولمة التي شملت الجميع بالإهانة والفقر بعد ان كانت قد اعلنت، اثر انتهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، ان انتصارها فيها سيفتح الباب أمام مستقبل ابدي مضمون من السلام والازدهار للبشرية واعدة بإنفاق مبالغ طائلة من المال لبناء المدارس والمستشفيات والمنازل وكل الأشياء الأخرى. وبدلا من عولمة الديمقراطية والعدالة والرفاه والحقوق والحريات والقانون الدولي، ها هو الجشع الاعمى نحو الربح لدى ارباب السوق الحرة في العالم يؤدي إلى الإفقار الجماعي للسكان في كل مكان وإلى الهيمنة الكاملة على العالم من قبل الأوليغارشية الرأسمالية المتوحشة والفاحشة الثراء.

ففي الولايات المتحدة والدول الاغنى الأخرى سجل عدد المتقدمين بطلبات إعانة البطالة ارقام قياسية غير مسبوقة سلفا، وكذلك بالنسبة لعدد المُسّرحين من وظائفهم وعدد الشركات والمتاجر والمطاعم التي أغلقت ابوابها، في دليل واضح على الأثر الإنساني والاقتصادي المدمر للفيروس. وعلى العموم، ان ما هو حاصل اليوم يكفي للاستنتاج بان حياة الناس والدول لن ترجع الى ما كانت عليه في 2019. فكل مظهر ينتمي الى ذلك العام يبدو من بنات الماضي البعيد وغريبا فيما يبدو المستقبل مجهولا بشكل تام. وهذه، على اية حال، انطباعات تتعزز يوميا الآن بفعل سيل التقارير الميدانية التي تتسابق في تحديثها على مدار الساعة وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، معمقة القلق واليأس في كل الدول القوية والديمقراطية خاصة دون اغفال دولنا الضعيفة حيث تسمى ابشع أنواع المحاصصة ديمقراطية وتسمى الجماعات العشائرية والميليشيات قوى دستورية، وحيث لكل تأويلاته في تفسير مصدر هذه المحنة الداهمة ولكل علي شيبانه في عقلنة أتفه السفاسف والخرافات فبين قائل بان (كوفيد 19) لعنة من السماء وقائل بانها انتقام من الطبيعة لم يتردد كثيرون وبينهم "جيوسراتيجيون" و"علماء جراثيم" و"ومختبريون" من اعتبارها مجرد "لعبة أمم" جديدة او الزعم بان الفيروس تم تطويره مختبريا في خضم تسابق على تطوير سلاح جرثومي ما لبث ان ارتد على الجميع.

بداهة، لا نعرف بعد كيف سيكون عليه العالم بعد كسر جماح خطر كورونا او تحجيمه. فهذا سيحتاج الى وقت طويل. لكن من العسير الاعتقاد او الزعم بانها مجرد ازمة وتنقضي وان النظام الدولي الحالي سيظل جاثما على رؤوسنا مع ترميمات طفيفة او موضعية بزعم انه اقوى من ان تهزه الفيروسات والازمات. فهذه الازمة لن تنتهي في نظرنا الا باستبداله بنوع راق من الاشتراكية الاممية الإنسانية لا علاقة لها بالتجربة التوتاليتارية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق او نسخته الصينية او الكورية او سواها.

ويظل الاستفهام الجوهري قائما: هل يؤدي تفشي "كورونا" إلى ميلاد "نظام دولي جديد"؟

بلا ريب، ان القوى الدولية التي تتقاسم السيطرة اقتصاديا وعسكريا وحتى سياسيا على معظم مناطق العالم حاليا، لن تتخلى طواعية عن قيادتها الحالية القسرية للعالم اذا صدقت فرضية انتهاء الصدمة خلال فترة وجيزة او وجيزة نسبيا لا سيما مع غياب بدائل او خيارات استراتيجية عالمية على المدى المنظور تمتلك او تستطيع امتلاك رؤية خاصة جديدة عن المستقبل الإنساني وبالتالي عن دور مختلف جدا في ادارته تماما كما كان الحال مع ظهور أمل النظام الاشتراكي في مطلع القرن العشرين وكرد على فشل النظام الرأسمالي الليبرالي في درء حروبه الامبريالية الكبرى بين منتصف 1914 ونهاية 1918 والتي تسببت بعدد من جرائم الإبادة الجماعية وبتفشي الإنفلونزا الأسبانية التي تسببت عام 1918 في حصول ما بين 50 و 100 مليون حالة وفاة في جميع أنحآء العالم.

بكلمة أخرى، لقد كانت هناك اعراض كثيرة في النظام الدولي الحالي تشي بوجود تصدعات جوهرية فيه جاء فيروس كورونا، وهو نتاج النظام ذاته، ليكشف عن تسرطن التصدعات وامتدادها الى قلب النظام وبنكرياسه ورئتيه وحتى يافوخه ما أدى الى زعزعة ركائزه وأسس لحتمية انهياره عاجلا ام آجلا، وهذا ليس تكهنا بل استنتاجا ديالكتيكيا محضا تفرضه مقدمات ومعادلات منطقية وغير منطقية لا حصر لها ولا حدود برغم يقيننا المطلق بان النظام الجديد لا ينبثق بمجرد انهيار النظام القديم لكنه لن ينبثق الا على انقاض النظام المهيمن كما ان تبلور أي نظام جديد سيكون مختلفا نوعيا ولن تكون فيه الغلبة الاقتصادية والتكنولوجية ولا العسكرية العامل الحاكم الوحيد يل سيكون للعوامل الأخلاقية والثقافية والسياسية ثقلها الحاسم ايضا.

فكورونا بالفعل تخطى مفهوم الوباء التقليدي وستكون له عواقب سياسية واستراتيجية عالمية بعد ان بات يحصد الأرواح بشكل واسع ويلحق الخسائر المادية الفادحة ويسبب انهيارا في اقتصاد العولمة الرأسمالي ويصبح اداة سجال وصراع دولي عنيف على مواصلة الاستحواذ والهيمنة على مقدرات العالم كما على المجتمعات الرأسمالية ذاتها التي بدأت، على مستوى يتجاوز النخب الثقافية هذه المرة، اكتشاف اخطار التركيز في الانفاق على القوة العسكرية والتسلح والحروب على الموارد والأسواق والاستمرار بنهب العالم الثالث على حساب القوة الطبية والبحث العلمي باعتبارهما المجال الحقيقي لحماية الحياة والبيئة وتحقيق الأمن بمفهومه الإنساني الشامل القائم على عولمة حقوق المواطنة والحريات والحقوق ومشاعر التضامن بين الشعوب والبشر بدلا من عولمة القمع والاستبداد والتعصب العنصري والديني والمذهبي.

فحدث هذا الوباء هو حدث عظيم بلا ريب. لكن عظمته لا تكمن فقط بما يسببه من وفيات ودمار، انما أيضا في تأكيد مطلقية عدد من الأولويات ليست أولوية مكاسب السلام على عبثية الحروب، وأولوية سيادة المشاركة على سيادة رأس المال، واولوية الاشتراكية على الرأسمالية، وأولوية مكاسب الحب الإنساني على مكاسب التكنولوجيا، وأولوية الديمقراطية المباشرة على الديكتاتورية البيروقراطية والديمقراطية الشكلية، واولوية العقل النقدي على العقلي الغيبي ما يستدعي حركة إصلاح ديني جذري لا سيما في العالم الثالث يقودها رجال الدين انفسهم تؤكد على اعلاء القيم الإنسانية فعلا وهي كثيرة.

على ضوء ذلك، وبانتظاره، يتصاعد الامل والثقة بإمكانية ان ننجح باستخدام فرصة كورونا الى عامل حاسم لانتصار الحياة على الموت كما نجح السومريون باستخدام الطوفان نقطة انطلاق لانبثاق الحضارة الإنسانية على الارض.

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group