أنقذوا التعليم في العراق...

د. لاهاي عبد الحسين

04/11/2018

قاد النظام التعليمي الذي إنطلق مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 رجال ونساء حصلوا على شهادة الدراسة الإبتدائية وفيما بعد الدراسة المتوسطة وأدخلوا دورات تأهيلية سريعة لم يتجاوز بعضها أشهراً محدودة أو تمّ إدخالهم في دور إعداد المعلمين والمعلمات حديثة الإنشاء. حصل ذلك في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي عندما لم يكن العراق قد دخل بعد مرحلة التعليم الثانوي والجامعي. مرحلة خلت مما يسمى اليوم "المعلم الجامعي"، وهو الشخص الذي يحمل تأهيلاً جامعياً ويمارس التعليم ويفترض لهذا السبب أنْ يكون أكثر علماً وخبرة ومعرفة.
كان لكفاءة ومهارة وإخلاص أولئك الرجال والنساء أنْ أسسوا لنظام تعليمي سرعان ما أخذ يغذّ الخطى ليساهم في تقديم أعلام عراقية وقامات عالية في مختلف ميادين العلم والأدب والفن وسائر المعارف والمهارات الأخرى. ويمكن توقع ألا يكون خطر ببال أولئك الرواد ما يشهده قطاع التعليم اليوم وعلى مختلف المستويات من تراجعات خطيرة هي المسؤولة بلا شك في جانب أساسي منها عن التراجع النوعي للأداء في ميادين متعددة لعل في مقدمتها السياسة والاقتصاد والثقافة المجتمعية.
سكانياً، وبحسب ما جاء في أحدث تقدير لحجم السكان في العراق صدر عن الأمم المتحدة حتى حزيران من هذا العام 2018 فإنّ حجم السكان في العراق يقترب بتسارع ملحوظ من سقف الأربعين مليون نسمة. ويقدر العمر الوسيط فيه بما يقرب من العشرين عاماً أي أنّ نصف السكان أقل من عشرين عاماً فيما يقع النصف الآخر فوق سن العشرين عاماً. ويعني هذا عملياً أننا نقف أمام تحديات صعبة للغاية على مستوى تأمين الخدمات التعليمية والصحية والأمنية الضرورية لأعداد متزايدة من البشر ضمن الجماعة الوطنية للمجتمع العراقي.
على صعيد قطاع التعليم تشهد الإحصاءات الوطنية الشاملة الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء لعام 2016-2017 وهي آخر ما تمّ إطلاقه، حتى وإنْ حسبت بأيسر الطرق وأقلها تشدداً، على تحديات لا تقل خطورة. فقد سجل عدد الطلبة المقبولين والموجودين على مستوى التعليم الإبتدائي أكثر من ستة ملايين ونصف المليون طفل وصل منهم 53% فقط إلى مرحلة التعليم الثانوي بمرتبتيه المتوسطة والإعدادية. أي أنّ 47% من هؤلاء الطلبة أكتفوا بالتعليم الإبتدائي دون أنْ يعني ذلك أنّهم حصلوا على شهادة المدرسة الإبتدائية وإنّما تسربوا وتركوا الدراسة لأسباب عدة. وصل من هؤلاء 23% فقط مرحلة التعليم الجامعي وما يعادله على مستوى المعاهد ومراكز البحث العلمي نتيجة حدوث حالات تسرب واسعة وجديرة بالقلق. وهذا ما يشير بصورة مؤكدة إلى تآكل خطير في رأس المال البشري للمجتمع العراقي. بيد إنّ الخطورة لا تقف عند هذه الجوانب وإنّما تتعداها إلى نوعية الإحصاءات التي يقوم الجهاز المركزي بجمعها وتقديمها والتي يفترض أنْ توفر قاعدة بيانات أساسية لأية عملية تنموية مخطط لها يمكن أنْ تشرع بها المؤسسات الحكومية وغير الحكومية. فبحسب إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء حول عدد الطلبة المقبولين والموجودين على مستوى التعليم الإبتدائي من جانب وعدد أعضاء الهيئات التعليمية من جانب آخر يتضح أنّ هناك معلم لكل 25 طالب وطالبة. وبالمثل فإنّ هناك 23 طالباً وطالبةً لكل مدرس على مستوى التعليم الثانوي أي بأخذ عدد الطلبة المقبولين والموجودين من جانب وعدد أعضاء الهيئات التدريسية على مستوى الدراسة الثانوية في العراق ككل من جانب آخر. وبمثلها فإنّ هناك 20 طالباً وطالبةً لكل تدريسي جامعي على مستوى التعليم العالي. إحصاءات وردية على المستوى الوطني بلا شك تنافس إحصاءات التعليم في أرقى البلدان وأكثرها رفاهاً. معروف أنّ الجامعات في البلدان المرفهة تعتبر ألا يتعدى حجم القاعة الدراسية الواحدة سقف الـ 20-25 طالباً وطالبةً مقياساً مهماً لضمان تقديم خدمة تعليمية جادة وحميمة وفعالة على مستوى العلاقة بين الطالب والأستاذ. كما تسمح هذه الجامعات بفتح قاعات دراسية لا يقل عدد الطلبة فيها عن خمسة ولا يزيد على 25 لضمان سير عملية تعليمية توفر أجواء اجتماعية طبيعية وصحية ومؤثرة. الا إنّ واقع الحال في العراق يكذب هذه البيانات المجردة. فما الذي يقوله الجهاز المركزي للإحصاء عن ظاهرة التعليم الخصوصي التي باتت جزءاً حيوياً وليس مجرد تعبير عن مساعي عائلية متفانية للمساعدة على تأمين الحصول على معدلات تنافسية عالية لأبنائهم من الطلبة بسبب عدم توفر الملاكات التدريسية لمرحلة التعليم الإبتدائي والثانوي وحتى الجامعي. وماذا يقول الجهاز عن ظاهرة كثرة الشواغر التي أدت بإدارات العديد من المدارس إلى مطالبة أولياء أمور الطلبة لدفع أجور معلمين ومعلمات يعملون بعقود مؤقتة للإستعانة بهم لتلافي النقص الحاصل للملاكات التعليمية والمساعدة على تكملة المنهاج خلال السنة الدراسية الواحدة. ليس هذا فقط بل إنّ إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء تخبرنا أنّ معدل حجم المدارس الإبتدائية لا يتعدى الـ 464 طالباً وطالبةً فيما يقدر معدل حجم المدارس الثانوية بـ524 طالباً وطالبةً لكل مدرسة. سيكون لزاماً على المؤسسات التعليمية المعنية في الوزارات المختصة وبخاصة وزارة التربية أنْ تجيب على تساؤلات جدية حول مصداقية هذه الإحصاءات لتبث الحياة فيها وترفع عنها خاصية أنْ تكون صماء بكماء بقدر تعلق الأمر بواقع الحال. فهذه الإحصاءات لا تقول شيئاً عن ظاهرة الدوام المزدوج بل وحتى الثلاثي والرباعي للمدارس الحكومية في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية حيث يتزاحم الطلبة في بنايات مدرسية متهالكة في الغالب وغير مؤهلة من حيث الخدمات الأساسية. دوام تضطر فيه إدارات المدارس إلى التنسيق فيما بينها لضمان ضم أكبر عدد ممكن من الطلبة في مدارسهم على حساب أنْ تنحى نوعية الأداء التعليمي جانباً ويكتفى بتلبية الحاجة كمياً من خلال قبول الأعداد الكبيرة والمتزايدة من الطلبة ممن لا يتوزعون بصورة متوازنة على هذه المدارس. وهذا ما يؤدي بدوره إلى تقصير وقت المحاضرة الإعتيادية من 45 دقيقة إلى 35 دقيقة بل وحتى 20 دقيقة في بعض الحالات على مستوى الدراسة الإبتدائية أو الثانوية والتي يقضي المعلم نصفها في تهدئة الطلبة والتحقق من حضورهم إسماً إسماً. كما لا تحكي هذه الإحصاءات عن ظاهرة إكتظاض القاعات الدراسية في مدارس المدن ومراكزها وعدم توفر الملاكات التدريسية اللازمة بسبب نظام الإجازات لمختلف الأسباب ومنها إجازات الأمومة التي تمنح لأربع ولادات وإنْ كانت متعاقبة. كما إنّ الإحصاءات الخاصة بعدد المدارس لا تميز بين بنايات مدارس أصولية وأخرى طينية يفترش طلبتها الأرض ليتلقوا تعليمهم أو يتزاحموا على مقاعد دراسية مخصصة لإثنين من الطلبة يتشارك فيها ثلاثة إلى أربعة منهم. وهذه الجامعات تبني في حدائقها قاعات دراسية لمواجهة متطلبات إستيعاب أعداد غير مسبوقة من الطلبة المتقدمين للدراسة فيها الأمر الذي يتم على حساب توفر ظروف إنسانية وأخلاقية تربوية طبيعية. بل إنّ مصادرة الحدائق والفضاءات المفتوحة في المدارس والجامعات والكليات ينذر هو الآخر بإغلاق أجواء التفاعل الصحية فيما بين الطلبة أنفسهم وبينهم وبين تدريسييهم في فترات الإستراحة أو عقد النشاطات خارج القاعات الدراسية الروتينية والمغلقة.
وهناك الظواهر النوعية المستجدة التي إرتبط أحدثها بحصول أعداد كبيرة من خريجي المدارس الثانوية في السنوات الأخيرة على معدلات نجاح كاملة أي 100% أدت إلى دفع الطلبة الذين حصلوا على معدلات تقل عن 95% جانباً ليقبلوا في معاهد وكليات غير مرغوب بها من قبلهم. هذه ظاهرة تشير إلى عدد من الإحتمالات لعل من أسوأها إنتشار حالات الغش في الإمتحانات وعلى نطاق واسع وأخرى لا تقل سوءاً وهي التي تتمثل بشيوع حالات الركود والجمود في العملية التعليمية على مستوى المادة التدريسية والكتب المنهجية التي صار يقرأ فيها الأحفاد ما قرأه الأجداد وليس فقط ما قرأه الآباء والأمهات. وهذا ما أدى كما يظهر إلى أنْ يتنبأ الطلبة ومعلميهم بنمط الأسئلة المتوقعة ليصار إلى تحضير الطالب بطريقة تقرب إلى الآلية منها إلى الطريقة التي يعبر فيها عن الذكاء والحنكة والتميز. فكثيراً ما يسمع الأشخاص الذين يعطون أجوبة ذكية بطريقة مختلفة وغير مطروقة من مدرسين مخضرمين: ما تقوله صحيح ولكن لا تعلّم الفتى طريقة مختلفة لأنّ المصحح يبحث عن صيغة موحدة للإجابة... نريده أنْ ينجح بمعدل عالي وليس أنْ يفكر بطريقة مبتكرة!"، وخذ على هذا. أوضاع ليس فيها ما يبعث على الطمأنينة في قطاع تثبت تجارب المجتمعات الإنسانية في غرب العالم وشرقه أنّه الأهم والأخطر الأمر الذي يجعل من الإستثمار فيه رهاناً مضمون النتيجة حتى وإنْ كان على أقله فكيف إذا ما أدير بطريقة واعية ومسؤولة.

ترددات نوا

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group