حدث هذا ببغداد العباسية الجميلة ، صيف السنة الميلادية الف وتسعمائة واثنان وثمانون ، حيث كانت مدافع الحرب ، تكاد تأكل بداية السطور الغضة الممكنة . بدأ الأمر بمقهى حسن عجمي بمنطقة الحيدرخانة ، التي يفتتح بها شارع الرشيد البديع النازل صوب الباب الشرقي ، مستريحاً عند عتبة أبي نؤاس ودجلة والجسر والنوارس ، وعيون المها التي كانت تداعب القلب وأول نصوص العشق . تكاد تكون هذه المقهى المعتقة ، هي بوابة الدخول الحتمية لوسط الكتابة والثقافة والفنون الجميلة كلها ، فهناك ستتعرف على وجوه كنت تقرأ قصصهم وقصائدهم وما تيسر من رواية ونقد ، على صفحة جريدة أو كتاب ، ومن محاسن المصادفات المبهجات ، أنني عرفت القاص الراحل موسى كريدي مع أول جلوس لي هناك ، وكان موسى من الجلاس اليوميين ، على العكس من معظم الأدباء الكبار الذين ينطرون يوم الجمعة ، ليهاجروا الى المقهى وليصنعوا ظهيرتهم الممتعة حتى مطلع العصر . لموسى الجميل طقوس خاصة به لم أجدها في غيره من الكتاب ، فهو يدخل المقهى بهدوء ووجه مصنوع من ابتسامة خالدة ، ويتوجه صوب المغسلة المزروعة بباب غرفة الأراكيل ، ويقوم بغسل وجهه وتعديل شعره ، بمشطٍ حديدي صغير شاع أيامها ، ثم يأتي موزعاً البشاشة والسرور على الأصدقاء ، وكان غالباً ما يختار مصطبة الجلوس التي تطل على الشارع ، ومنها يستطيع قنص دكان كعك السيد والحلاق الحلّي ، ومعارك عدنان أبو السمك اللغوية المكرورة بباب المكان ، فيضيف إليها ويثلم منها ، مثل حكواتي جالس على كرسي الحكاية ، وتحت قدميه دائرة منصتين مذهولين مسرورين . بدأ عدد أصدقائي الأدباء يزداد ، وصرت أتبادل معهم الكتب وأخبار الثقافة ، وكان صوت مجلس موسى خفيضاً في السياسة وعالياً في معمعة الثقافة ، ومن هذه وتلك ولد النشر الأول البهيج ، وكان عبارة عن خاطرة قصيرة مبنية من طابوق أربعة سطور ، ومن الصنف الذي يكتبه العشاق العذريون على حوائط الأزقة ، أو محفوراً على جسد الأشجار المعمرة بمنطقة الوزيرية الحلوة وما حولها !! من تلك اللحظة الرائعة التي جئنتُ على تأريخها في مفتتح المكتوب ، قررت التوقف عن كتابة الهراء الذي كنت أعتقده شعراً ، واتجهت الى صنف بدا جديداً وغير شائع ، ويحمل مصطلحاً ملتبساً بين الأجناس الأدبية . إنه جنس القصة القصيرة جداً ، أو المقصوصة بالغة القصر ، والتي لا تستهلك لغةً كثيرةً ، وبعد ثلاث سنوات من الواقعة الأولى ، نشرت لي جريدة القادسية خمساً من قصار القصص ، كان ساعي البريد المؤتمن الذي أوصلهن الى الجريدة صديقي الشاعر كريم شغيدل ، وبتقديم لطيف من صديقي القاص جمال حسين علي ، وفيها تسلمت أول مكافأة مالية قيمتها خمسة عشر ديناراً ، أيام كان الدينار عزيزاً دسماً من فرط قوته يكاد يصيح !! الآن وبعد أحد عشر مجموعة في القص والحكي والمكاتيب والمنثور الحر ، لم تعد تلك اللذة كما انولدت أول مرة ، وكما كان منظري وأنا أحصل على نسخٍ من مجموعتي القصصية الأولى « المدفن المائي « بباب تسعينيات الرمادة والسخام ، حيث زرعتُ واحدةً عند وسادتي ، مثل عملية تحفيز لحلم مؤجل !!