ثورة الخريجين...

د. لاهاي عبد الحسين

29/09/2019

هذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها وجبات متعاقبة من خريجي الجامعات العراقية إلى البطالة والتعطيل وتتسبب بشيوع حالات من التذمر واليأس والقنوط

أدت بالبعض منهم إلى خيارات قاسية لعل من أبرزها الهجرة خارج العراق أو الإستغراق في ميادين عمل لا علاقة لها بتأهيلهم العلمي وحالات فردية من الإنتحار. ناهيك عما تعرضت إليه جماعات منهم قبل يومين أختاروا التظاهر للمطالبة بحقهم في العمل فكان أنْ أهينوا وضربوا بقسوة لا فرق في ذلك بين الذكور فيهم والإناث بغية تفريقهم. جراء أثار موجة من السخط العارم والإنتقادات الحادة لما انطوى عليه من شراسة وهمجية لا مبرر لها. بالنهاية هؤلاء مواطنون عراقيون يحملون الجنسية العراقية ولا يتباهون بغيرها.

إنّهم ليسوا ممن يضعون قدماً هنا وقدماً هناك ولا ينتظرون العطل الرسمية وغير الرسمية ليستمتعوا بأوقاتهم خارج حدود العراق. وإذا ما حصلوا على عمل يدر عليهم دخلاً مجزياً فإنّهم سينفقونه هنا والآن.

سبق لخريجي الستينيات من القرن الماضي من كافة الإختصاصات بضمنها الهندسة والعلوم أنْ حرموا من العمل بسبب شيوع حالة من الركود الاقتصادي والسياسي التي عمت البلاد آنذاك. بيد أنّ تغيير النظام السياسي أدى إلى إصدار قرار لتعيين الجميع في المؤسسات الحكومية ليتضح فيما بعد أنّ لذلك القرار أغراض أخرى غير معلنة تمثلت بهدف إخضاع المواطن لسلطة النظام ووضع الجميع تحت المراقبة. صار نتيجة ذلك أمر الإستقالة من الوظيفة الحكومية صعباً وحتى مستحيلاً. وبعد ظهور مشاكل ارتبطت بضعف الأداء وتدني الإنتاجية وشيوع حالات الترهل الوظيفي أعلن النظام ما أصطلح عليه بالثورة الإدارية والقيام بعمليات "ترشيق" لزيادة الإنتاجية، سمحت بتقديم الإستقالة والتقاعد المبكر أو إعادة التنظيم بالنقل والتنسيب إلى مختلف مؤسسات العمل. وصدر في حينها قانون سمح لأمهات الأطفال دون سن الخامسة عشرة من العمر التقدم بطلب التقاعد المبكر لرعايتهم والتفرغ لهم. وعادت مشكلة التوظيف في القطاع الحكومي بعد 2003 إلى الظهور بقوة وبخاصة لحملة الشهادات العليا فكان أنْ تقرر حوالي عام 2005 تعيين كل متقدم لطلب العمل. وعندما أشتكت إدارات المؤسسات الحكومية معبرة عن عدم قدرتها على ضم المزيد من هؤلاء بسبب فائض قوة العمل لديها أصلاً جاء الرد بصيغة "عينوهم حتى لو تمشوا في الممرات...". هكذا سارت مؤسسات العمل الحكومية في العراق وفق قرارات عشوائية وارتجالية دون تخطيط أو تنسيق بين المؤسسات التعليمية وسوق العمل، على وجه التعيين. وأفتقرت الدولة إلى سياسات تأخذ بالإعتبار تزايد أعداد هؤلاء بسبب تقدم وجبات متعاقبة منهم للدراسة في مجتمع يوصف بأنّه مجتمع شاب سكانياً تقدر نسبة من هم دون سن الخامسة عشرة من العمر فيه بما يقرب من الـ 50%. وخضعت المؤسسات التعليمية تبعاً لذلك إلى زخم المتقدمين للدراسة في مختلف الإختصاصات من الطلبة خريجي المدارس الثانوية ممن وزعوا على الكليات والمعاهد المتعددة وفق نظام الإنسيابية القسري أو ما سمي بالتوزيع المركزي. وعندما لم يجد هؤلاء الطلبة بعد تخرجهم من الكليات التي نسبوا إليها أماكن للعمل أختار كثير منهم طريق مواصلة الدراسة للحصول على الشهادة العليا لتحسين فرصة الحصول عليه. بدا هذا واضحاً من خلال تصريح معظم هؤلاء الشباب بأنّهم يبغون تقوية فرصتهم للعمل أو أنّهم يرومون تحقيق طموحات فردية من خلال الحصول على الشهادة العليا أو معالجة الفراغ الذي يعانون منه الناجم عن البطالة. هذه تبريرات لا غبار عليها في ضوء عدم توفر فرص للعمل سواء في القطاع الحكومي أو بسبب عدم توفر قطاع أهلي خاص يؤمن عملاً دائماً ومضموناً يسد الحاجة الشخصية والعائلية ويلبي النزعات الذاتية لتحقيق الذات وتطويرها.

وبدلاً من العودة إلى قواعد التخطيط والمتابعة لرصد حركة العمل ومتطلباتها من المؤسسات التعليمية فقد سمح لتزايد مريب في عدد المدارس والجامعات والكليات الأهلية التي وفرت الفرص للدراسة في الإختصاصات المرغوبة أو التي توفر شهادة جامعية فحسب لأعداد كبيرة من الراغبين فيها لقاء أجور سنوية بعضها باهظ. تزايدت الجامعات والكليات بدرجة كبيرة حتى بلغ عدد الحكومية منها 35 فيما بلغ عدد الأهلية منها 45 إلى جانب أكاديمية تابعة للشرطة وواحدة تتبع وزارة الدفاع وأخرى تتبع وزارة الداخلية وجامعتان تتبعان الوقف الشيعي والوقف السني حسب احصاءات 2018. يذكر أنّ عدد الجامعات الأهلية في العراق قبل عام 2003 بلغ (11) جامعة فقط فيما سجل عددها (49) بعد 2003 منها (17) جامعة وكلية تأسست خلال الفترة ما بين عامي 2014 و2017. أما الأجور الدراسية فقد تراوحت بين مليون دينار عراقي لكليات العلوم السياسية إلى 9 ملايين دينار عراقي لكليات الصيدلة وعشرة ملايين لكليات طب الأسنان. ولم تسجل الكليات الأهلية تميزاً على الكليات الحكومية من حيث الإختصاصات العلمية والتطبيقية بل كانت امتداداً لها وضمت مختلف الإختصاصات المألوفة منها كليات علوم القرآن التي خفضت الأجور فيها إلى 900 ألف دينار عراقي لمنتسبي الحشد الشعبي.

على مستوى العالم تصنف الجامعات من حيث قدرتها على تشغيل خريجيها بشهادة الشركات والمؤسسات التي أنخرطوا للعمل فيها بعد التخرج. توفر هذه الجامعات لطلبتها برامج دراسية وتطبيقية طموحة تؤهلهم للعمل بمهارة على المستوى الوطني والقومي وحتى الدولي. ظهر معهد ماسشوسيتس للإدارة والتكنولوجيا الأمريكي أولاً وحلت جامعة مشيكان الأمريكية أيضاً في المرتبة الخامسة والعشرين حسب مؤشر التشغيل لعام 2018. وظهرت على هذا المستوى جامعتا سدني وملبورن الأستراليتين لتحلا في المرتبة الخامسة والسادسة على التوالي تلتهما جامعة كامبردج البريطانية في المرتبة السابعة وجامعة تسنغو الصينية في المرتبة التاسعة وجامعة تورنتو الكندية في المرتبة الثانية عشرة تبعتها جامعة هونغ كونغ في المرتبة الثالثة عشرة وأحتل المعهد الاتحادي السويسري للتكنولوجيا- زيورخ المرتبة الخامسة عشرة فيما حلت جامعة طوكيو في المرتبة التاسعة عشرة وجامعة بكين الصينية في المرتبة العشرين وجامعة سيئول/ كوريا الجنوبية في المرتبة الثالثة والعشرين. وأحتلت المراتب الأخرى ما بينهما جامعات أمريكية تقدمتها جامعات ستانفورد وهارفارد وبيركلي ونيويورك وييل وبرنستون وكولومبيا وكورنيل وشيكاغو وبنسلفانيا.

بالعودة إلى الحالة العراقية لا يستبعد توقع ألا تكون هناك قدرة فعالة على معالجة أوضاع خريجي الجامعات وبضمنهم حملة الشهادات العليا وإنْ توفر بعض منها فإنّها ستكون محدودة في ضوء الأوضاع الحالية التي تشهد فيها مؤسسات الدولة تخمة غير عادية تعبر عن نفسها بصيغة تدني ملحوظ في مستوى الإنتاجية وترهل وظيفي يصل حد العجز. يزيد الوضع تفاقماً الأوضاع السياسية العامة التي تحول دون حراك وطني وعملي سليم. في الوقت الذي يعبر فيه هؤلاء الخريجين عن استعدادهم للعمل في أي محافظة تؤمن لهم فرصة العمل وفق مؤهلاتهم فإنّ مزيداً من الإنغلاق والتقوقع على مستوى المحافظات المتعددة يحول دون ذلك. يتجلى هذا في أحدث تقليعات التمايز والتفرقة بين المواطنين من خلال ما صار يعرف اليوم بالمناطقية التي شرع لها سياسياً بتأسيس مجالس المحافظات. توجه هذه المجالس اهتمامها بساكني محافظاتها ليس على اساس الخبرة والكفاءة وإنّما على أساس "الأقربون أولى بالمعروف". من حق المحافظات أنْ تهتم بتوفير فرص العمل لأبنائها من سكان المحافظة بل ومن واجبها أنْ تفعل ذلك إنّما ليس خارج الإطار الوطني الذي يسمح بإستقدام الأكفأ والأكثر مهارة ممن يمكن أنْ يقدم خدمة جليلة لها. لا يخفى على أحد أهمية التنويع والمشاركة والإشراك في مؤسسات العمل الحكومية وغير الحكومية على مستوى المحافظة وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالأعمال التي تتطلب كفاءات تقنية وعلمية محددة يحصل عليها المرء من خلال الدراسة والتدريب وليس الولاء والتابعية. لن يكون ممكناً للعراق أنْ يتقدم خارج رؤية وطنية شاملة لا يمارس فيها العراقيون مشاعر التمايز فيما بين بعضهم البعض بإسم الدين أو المذهب والمحافظة والجماعة العرقية. ستكون خدمة المحافظة عظيمة عندما تتم وفق نظرة شمولية تسعى لإستقدام الأكفأ والأكثر جاذبية لإنجاز العمل.

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group