كنت نزلتُ بعمّون الجميلة ، عند وشل خريف السنة الف وتسعمائة وأربعة وتسعون ، هارباً من مدينتي بغداد الجميلة المريضة أيامها ، التي كانت تدشن عامها الرابع من حصار أسود قاتلٍ مجرم ، لم يشهد له التأريخ الحديث مثيلاً ، حيث مُنع العراقيون ليس من حصتهم الطبيعية من الدواء والطعام ، بل حتى من حقهم في التعليم وأدواته التي وصلت بدول الحصار اللا أخلاقي ، حدّ منع أقلام الرصاص عن أطفاله بذريعة غبية وحاقدة عنوانها « المواد ذات الإستعمال المزدوج « ولو اكتشف الامريكان والبريطانيون طرقة ما لمنع وصول الهواء الى أجواء بلاد ما بين القهرين ، لفعلوها من دون ذرة شعور بالذنب والآدمية الطبيعية . كان العراق كله يرقد فوق سرير الإحتضار ، والضيق الإقتصادي يتكىء على ضيق نفسي مروع ، متصل بخنق الحريات والمتنفسات الفكرية عموماً . كانت فكرة الهروب الأولى هي أن تكون عمّان محطة مؤقتة للوصول الى عالم آخر ، بدا مجهولاً وغامضاً لكنه كان خياراً وحيداً لعائلة ربّها لا يجيد أي عمل ذا جدوى اقتصادية ، سوى كتابة القصص والحكايات ونشرها ، حتى خيّمتُ الآن على كتابي الحادي عشر . بعد نحو سنتين من العيش العمّاني الشحيح ، قدمت والعائلة طلب لجوء الى مكتب المفوضية السامية لشؤون وشجون اللاجئين ، وأرفقته بملف دسم نامت فيه كل أسباب القبول ، لكن العدد الضخم من العراقيين هنا كان سبباً مهماً في تأخير الاستجابة ، ثم تراكمت السنوات وتشابكت العلاقات مع أصدقائي الأردنيين الكرام من النخبة ومن العامة ، فوقعت في عشق ربة عمون وقررت البقاء فيها على أمل تغيير الوضع في بلدي العراق ومن ثم العودة الى بغدادي . حصل التغيير بتاسوعاء نيسان الأسود ، وكان أسوأ وألعن مما صنعه مخيالنا الرومانسي ، فحلّت في ديارنا الطائفية المريضة والقتل على الهوية واستورد الغزاة الهمج الأمريكان لنا ، المخدرات والقاعدة وداعش وايران ، وحثالة بشر تم تنصيبهم على كرسي الحكم ، لينتجوا تالياً واحدة من أفسد دول الأرض ، باعترافهم هم ومنظمات القياس العالمي المشهورة . أمام هذا الوضع الكارثي الثقيل وفقداني لأي سند مادي مهم ، عادت فكرة اللجوء لتطل ثانية على أيام العائلة الصعبة ، حتى يممت وجهي مرة أخرى صوب مفوضية اللاجئين وقدمت لهم ملفاً أكثر دسامة من الأول . حدث هذا عند عتبة العام الفان وسبعة ، وبهذا حصلت وعائلتي المكونة من ستة أنفار على راتب شهري مقداره مائتين وخمسين دينارا أردنياً ، كانت كافية لسد كلفة ايجار الدار وفواتير الماء والكهرباء وبعض ثقوب الأيام . بعد ذلك بسنوات تم قطع هذا الراتب لأنهم زاروني الى الشقة التي أعيش فيها مستأجراً ، فوجدوها نظيفة وتخلو من عفن الرطوبة وإضاءتها جيدة ، وكان جل همّهم هو في كيفية ملء بطن اللاجىء بالطعام فقط ومن دون أي اعتبار حياتي آخر !!