بات عالمنا اليوم مزدحما بالمناسبات السنوية او الايام التي تعتمد عالميا لاحياء امر ما او قضية معينة. لا اميل الى الاحتفاء بها جميعا والتركيز على كل واحدة منها لان ذلك سيعني الاحتفاء بمناسبة كل يوم تقريبا لكن هناك من المناسبات ما يستحق التوقف والاسترسال ومن اهم ايام الاحتفاء السنوي هو اليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من ديسمبر كانون الاول وهو اليوم الذي يسجل لتاريخ اتخاذ اللغة العربية واحدة من اللغات الست في الامم المتحدة عام الف وتسعمائة وثلاثة وسبعين. اللغات الاخرى هي الانكليزية والفرنسية والاسبانية والروسية والصينية.
على امتداد القرن العشرين مرت اللغة العربية بمخاضات ومراحل ارتبطت بنشوء دول عربية حديثة بعد قرون من خضوع العرب لحكم إمبراطوريات تركية وفارسية وأوروبية. رغم تلك الهيمنة السياسية لم تمت اللغة العربية او تندثر والسبب الرئيس في ذلك كان في انها اللغة الطقوسية للإسلام الذي اعتنقه الترك والفرس(وغيرهم طبعا). لكنها ايضا لم تتطور كثيرا.
في القرن العشرين ولأسباب سياسية متعددة لم يستطع العرب ان يحققوا حلمهم بدولة قومية عربية كبيرة فتكرست الدولة القُطرية لكن اللغة العربية عبرت امتحان التقسيم السياسي للعرب كما عبرت قرون الحكم غير العربي. وهنا لابد من الاشارة الى جهود كثير من العرب من غير المسلمين ومن المسلمين ايضا في تحويل العربية الى لغة حديثة مكتوبة وحاضرة وفي انشاء وسائل اعلام وطباعة وحركة ترجمة من اللغات الحديثة اليها.
جاءت بعدها تحديات اللهجات المتباينة في المناطق والدول العربية لكن هذه ايضا لم تقتل او تشتت اللغة العربية التي بقيت اولا اللغة الرسمية وخصوصا في الكتابة والخطابة والاحاديث الرسمية. وثانيا لغة التفاهم والتواصل بين العرب ذوي اللهجات المختلفة. بينما فشلت مثلا مشاريع ومحاولات تحويل بعض لهجات الدول العربية الى لغات.
فشلت قبل ذلك ايضا مشاريع فرض لغات اجنبية وقد كانت الجزائر مسرحا أساسيا في المواجهة الثقافية بين الفرنسة والتعريب فضلا عن المواجهة العنفية طبعا في ذلك البلد بين الشعب الجزائري والاستعمار الاستيطاني الذي انتهى بانتصار الثورة الجزائرية. وبغض النظر عن الموقف السياسي فقد جاءت خطابات الرئيس الجزائري المنتخب حديثا عبد المجيد تبون بلغة فصحى مفهومة للعرب في كل مكان بالاضافة الى الجزائريين طبعا. هناك طبعا خصوصية اللغة الامازيغية في الجزائر و الدول الاخرى في شمال افريقيا التي تتكون شعوبها من غالبية عربية واقلية امازيغية كبيرة وهناك طبعا اقليات قومية كبيرة في المشرق اكبرها الكرد وتلك قضية اخرى نبحثها في مكان اخر.
سياسيا ورغم افول ايدولوجيا القومية العربية بنهاية القرن العشرين لم تضعف اللغة العربية لان التيار الذي صعد كان تيار الاسلام السياسي الذي يقوده شيوخ هم اكثر حرصا على العربية وإتقانا لها كجزء من نشأتهم ودراستهم الدينية. في القرن الواحد والعشرين تواجه اللغة العربية تحديا جديدا في الاعلام الجديد والتواصل الاجتماعي الذي برز حضور فئات شعبية ليست متعلمة بالضرورة وفق الأصول المعتادة. لكنها تواجه هذا القرن بتوتر اقل اذ ترسخ حضورها كوسيلة تواصل بعيدا عن التشنج السياسي والصراع بين العرب وغيرهم أو بين القوميين العرب و أعدائهم. ادى انتشار وسائل الاعلام والقنوات الفضائية الى ان تقارب اكثر وتفهم اكثر من العرب للهجات المختلفة التي اصبحوا يستعمون اليها اكثر وبعد ان كانوا جميعا تقريبا يفهمون اللهجة المصرية اصبحوا يفهون لهجات بعضهم الاخرى بصورة افضل نسبيا.
اصبح ارتباط اللغة العربية بالصراعات السياسية اقل وإستنادها اكثر على المصالح الاقتصادية التي توفرها كوسيلة تفاهم وتواصل فيما يستمر ارتكازها على قاعدتها الثقافية-الدينية في كونها لغة الاسلام وكتابه المقدس كما انها لغة طقوسية عند كثير من الكنائس الشرقية ايضا. والاهم ان اللغة العربية الفصحى هي لغة الكتابة المعتمدة والمحترمة الوحيدة رغم انها ليست لغة محكية كما انها لغة الخطابات الرسمية والبرامج الجادة في كل بلد عربي.