الثورة ومعضلة غياب القيادة

فارس كمال نظمي

22/12/2019

إن عماد الموجة الثورية الحالية من الاحتجاجات هم الشباب الوطني النقي القادم من أحزمة الفقر حيث النزعة الرافضة للأحزاب والايديولوجيات.

ولولا هؤلاء لما استمر الزخم الاحتجاجي حتى اليوم. ثم التحقت بهم فيما بعد أطيافٌ وطنية أخرى: مدنيون ويساريون وشيوعيون وصدريون وعروبيون وناشطون ونقابات ومنظمات مدنية، إلى جانب أجزاء من طبقة الموظفين، وأعداد مهمة من طلبة المدارس والجامعات، وحرفيين ورجال دين. 

وهكذا تبدو الثورة التي انطلق عمرها المستقبلي للتو تجسيداً لكتلة تاريخية وطنية عابرة للطبقات والعقائد والهويات الفرعية، شديدةَ العنفوان في دمائها وخطابها وغضبها وأهدافها الجذرية وسعة التمثيل التي تمتلكها. كما تتميز بقدرتها على التحشيد العددي الواسع عبر تنسيقياتٍ متفرقة في أرجاء البلاد تعمل على تحديد إحداثيات التظاهر والاعتصام مكانياً وزمانياً، والترويج الإعلامي في مواقع التواصل الاجتماعي، وتوفير الإمدادات الغذائية وتأمين الخدمات الطبية واللوجستية للمحتجين. لكن في الوقت نفسه، تبدو الثورة غير قادرة بعد على إطلاق هيكليتها التنظيمية للتمهيد لإعلان عصرٍ سياسي جديد.

وليس المقصود بالهيكلية التنظيمية ظهور تنظيم حزبي أو عقائدي تقليدي إذ يبدو هذا أمراً لا يتفق مع التنوع الفكري والثقافي والاجتماعي والنفسي للحراك، فضلاً عن أنه قد يغدو سبباً للانشقاق والتفتت؛ بل يقصد به بروز أطر تنسيقية قيادية بين بؤر الحراك المتنوعة بصيغة ائتلاف أو جبهة تسمح بتفاعل الرؤى وتوحيد الخطاب بما يبلور قطبية سياسية مرنة للحراك ذات مشروع محدد المعالم بمطالبه وخياراته وقراراته، بمواجهة القطبية القابضة على السلطة. 

ويجادل البعض برؤية مخالفة في أن بقاء الحراك بلا قيادات أو أطر تنظيمية ينطوي أيضاً على إيجابيات مثلما ينطوي على سلبيات. فواحدة من أهم أسباب قدرته على التعبئة والمناورة والمطاولة هي طابعه الأفقي العفوي المتدفق، وهذا يجعله محتفظاً بزخمه الثوري العابر للنسبيات المعرقلة، والمقاوم لاحتمالات الاجهاض أو الاختراق.

إلا أن إيجابية التعبئة الاحتجاجية دون قيادات، لا تغدو حقيقة مجدية وفاعلة ومنتجة إلا إذا استجاب النظام السياسي جزئياً لمطالب الحراك، وبدأ بتقديم تنازلات إجرائية في هيكليته بما يسمح بإعادة تقاسم السلطة تدريجياً مع الفواعل السياسيين الجدد. أما في حال انغلاق النظام السياسي واستعصائه على التفاعل مع الحراك الشعبي المستميت – كما يحدث اليوم في العراق- فإن بقاء هذا الحراك دون أطر تنسيقية قيادية لمدة طويلة، قد يعني تشتته أو خموده بمرور الوقت.

إن واحداً من الأسباب المحتملة لعدم ظهور قيادات متفق عليها لحد الآن في الحراك الحالي هو انتشار نزعة دفاعية في صفوف المحتجين عموماً والشباب خصوصاً، مضمونها أن الحراك ينبغي أن يظل شعبياً صرفاً عصياً على أي تأطير سياسي أو ايديولوجي قد يسعى إلى "ركوب الموجة". هذه النزعة لها ما يبررها نفسياً وأخلاقياً، لكن لا يوجد ما يبررها في عالم الصراع السياسي القائم على احتكار القوة وتنظيمها. 

هذه النزعة الدفاعية تنبع من نمط جديد من الثقافة السياسية ذات الطابع الثوري الطهراني، تكونتْ وانتشرتْ بتأثير عاملين: التأثير النفسي لتكنولوجيا التواصل الاجتماعي، ومشاعر الاغتراب السياسي بسبب فشل المشاريع الأيديولوجية التقليدية قاطبة في الشرق الأوسط ومحيطه، وفي العراق تحديداً. ولعلها باتت ظاهرة ذات ملامح عالمية بفعل ثورة الاتصالات، صار يصطلح عليها بظاهرة أو عصر "الثورة بلا قيادات".

فقد وفرت وسائل التواصل الاجتماعي فضاءً معلوماتياً لتبادل الأفكار السياسية وقيم العدالة وحقوق الإنسان، عابراً للجنسيات والطبقات وللتنظيم الحزبي التقليدي، إذ يلتقي الملايين في عالم افتراضي يتسع لهم جميعاً، بل يجعلهم جميعاً مهمين وقادة للرأي والتعبير ومنظّرين لطموحات كبيرة، إلى حد النفور من خيار الولاء لقيادات فردية أو لتأطير تنظيمي مُلزِم، واستبداله بخيار الانخراط في قيادة جماعية أفقية لا رؤوس محددة فيها إذ يصبح الجميع قادة ومؤثرين.

وفي الوقت نفسه تفاعلت هذه النزعة المتطيرة من القيود التنظيمية، بمشاعر الاغتراب السياسي العميق الذي يعاني منه الشباب العراقي حيال سلطة الأحزاب الإسلاموية المتهمة بالفساد ونهب المال العام وتدمير الهوية الجامعة وخطف الوطن. فاصبحت مشاعر العجز السياسي وفقدان المعنى السياسي والعزلة السياسية تشكل معالم أساسية في اتجاهاتهم نحو السلطة. كما أصبحت فكرة "الحزبية" والتنظيم السياسي كما لو أنها مرادفة للفساد والخطيئة واللاوطنية في أذهان هؤلاء الشباب ممن لم يعايشوا أي ايديولوجيات أو عصر سياسي سوى حقبة الإسلام السياسي منذ 2003. 

إنهم يريدون أن يبتنوا عقداً اجتماعياً جديداً مع الدولة قائماً على عناصر المواطنة المتساوية والحقوق المدنية الأساسية والضمانات الاجتماعية والهيبة الوطنية وسلطة القانون، دونما تنظيمات حزبية أو عقائدية. فإعادة بناء الوطنية العراقية بات ينبع من مطالب المواطن الفرد غير المسيس دونما حاجة الى أن يستعير وطنيته من فكر حزبي أو دين سياسي. وبتعبير محدد على ألسنتهم: «نريد استرجاع الوطن...نريد إسقاط الأحزاب».

إن الثورة تندلع بوصفها تفجراً نفسياً كاملاً ومكتملاً، متشوقاً للتغيير الحتمي، وهذا ما حدث في تشرين الأول 2019، لكنها تظل منقوصة ما لم تتحول بمرور الوقت إلى مسك الأرض عبر إطار تنظيمي – ولو مؤقت- يضمن لها قدرة المناورة واتخاذ القرار لكي تشكّل بديلاً مجسماً أمام الأبصار، لا فكرة صادمة أو ضرورة "مؤجلة" فحسب. 

وهنا يُفترض أن يكفّ الفعل الاحتجاجي عن كونه فعل مطالبة بإقالة أو استبعاد جزء من السلطة فحسب، ليمتد ويتمدد إلى كونه فعل اختيار لنمطٍ بديل من السلطة أيضاً. فالاحتجاج – بوصفه فعلاً تاريخياً- ليس مطالبة بحقوق مستلبة فحسب، بل فرض حقوق جديدة أيضاً ضمن السياقات السلمية ذات الشرعية السياسية الصادرة عن مصدر السلطات، أي الناس (الشعب) بوصفهم عقلاً جماعياً يسمو فوق "شرعيات" دستورية تحاصصية.

هذه المواجهة النفسية بين الثوار والسلطة تقتضي من كل منهما أن يمارس ما في جعبته من أساليب الضغط والتأثير والإملاء. إلا أنهما سيفترقان في مضامين هذه الأساليب، إذ سينحو الثوار نحو المطاولة والعناد والصبر والثبات على إنجاز الانتقال السياسي الجذري، فيما ستنحو السلطة نحو المماطلة والخداع والتخوين والقمع.

وهذا ما حدث بالفعل في بغداد ومحافظات عدة خلال الأسابيع الماضية، على يد "بلطجية" السلطة، عبر تفعيلهم لسياسة حرق الأبنية واتهام المحتجين بذلك، لتشويه العنفوان الأخلاقي للثوار السلميين المستميتين لاستعادة الوطن.
كما شرعت الأحزاب والجماعات الإسلاموية المتضررة من الثورة بتنظيم تظاهرات مضادة ذات طابع ديني ولائي هدفها المعلن "طرد المندسين والمخربين" في صفوف المحتجين من أجل "المحافظة" على سلمية التظاهرات. وقد رافقت هذه التظاهرات صدامات محدودة وحالات طعن بالسكاكين ضد المعتصمين. 

ووصل الأمر في ليلة 6 كانون الأول الماضي إلى اقتحام ميليشيات مسلحة بسيارات مدنية لساحتي الوثبة والخلاني القريبتين من ساحة التحرير، وقيامهم بفتح النار عشوائياً من أسلحة خفيفة ومتوسطة على مئات الشباب السلميين المعتصمين في الساحتين، على مرأى ومسمع القوات الأمنية الرسمية التي انسحبت من محيط المجزرة. فسقط عشرات القتلى والجرحى من المعتصمين، وأحرقت خيامهم، في محاولة فاشلة لفض الاعتصام وإخلاء الساحات باستخدام ستراتيجية الترويع هذه.

كما حاولت قوى الثورة المضادة الاستفادة من جريمة الوثبة البشعة الغامضة في دوافعها وفاعليها الحقيقيين في 12 كانون الأول الماضي، لتأليب الرأي العام على مجمل الحراك الاحتجاجي وتأثيمه وشيطنته بأساليب التشويه والتخوين، عبر إلصاق وصمة الغوغائية الكلية به.

إن نوايا المحتجين لكي تجد طريقها إلى الواقع، وينتقل فعلهم الاحتجاجي إلى فرض الخيارات، فلا بد أن يجري التوافق العام بين فئاتهم الميدانية –ذات الرؤى المتباينة- لإنضاج ستراتيجية ابتدائية موحدة تتحدد فيها الخطوات الإجرائية الواقعية لإنجاز التغيير السياسي، بما يشكّل خياراً شعبياً ملموساً ومجسداً يمكن الدفاع عنه ضد مشروع السلطة الذاهب إلى التسويف والتدليس.

ودون هذا الخطوة، وفي ضوء استمرار منهج السلطة في القمع والانتهاكات، ومحاولاتها لاحتواء الحراك الاحتجاجي عبر سياسة شراء الوقت، فسيتحول الفراغ السياسي المحدود حالياً إلى فجوة عبثية عميقة تختلط فيها المطالب والمسميات والحقوق حد الالتباس، بما يسهم في تقوية احتمالات الثورة المضادة، ويمنح الفساد السياسي عمراً إضافياً لأمد غير محدود.

ترددات نوا

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group