وكل على قدر مهمته

طالب سعدون

28/12/2019

ليس رجما بالغيب، بل هي رؤية استشرافية ضمن حدود قدرة الانسان العادي أن يتوقع أن تصل العملية السياسية في العراق الى طريق مسدود ة في إختيار رئيس وزراء خلال المدة الدستورية المحددة 15 يوما، رغم الالتفاف عليها باضافة أيام أخرى..

والسبب..

أن القرار هذه المرة خرج من يد الكتل السياسية لتتفق أو تتوافق على أي قضية موضع خلاف في اللحظات الاخيرة وتخرج من الازمة، كما كان يحصل في المرات السابقة ليعود القرار الى الشعب.. وهذا يعد إنجازا كبيرا للانتفاضة الباسلة..

في مقالي السابق في الخميس الماضي بعنوان (تيتي.. بين الثبات والتغيير) توقعت كغيري ممن ذهب الى هذا الرأي أن عملية إختيار رئيس مجلس الوزراء ستدخل في نفق قد لا تخرج منه هذه المرة في اللحظات الاخيرة كما جرت العادة في الازمات السابقة، لان الشباب المنتفضين لن يتراجعوا عن شروطهم في المرشح لهذا المنصب، ومطالبهم الوطنية التي يلتقي عليها العراقيون جميعا.. وهذا ما حصل فعلا إذ  كانت المقدمات تشير الى النتائج في عدم تمكن رئيس الجمهورية من الاختيار والتكليف، ولم تحظ الاسماء التي ترددت في الاعلام للترشيح بقبول ساحات الاعتصام..

كما كان لضغط الشعب ووقفته وإرادته في التغيير من خلال ساحات الاعتصام صدى في مجلس النواب في صدور قانون انتخابات جديد يستجيب لارادته في التغيير، وترمى الكرة في مرمى الناخب في تغيير الخارطة السياسية إن أحسن الاختيار.. وهذا يعد إنجازا كبيرا للانتفاضة الباسلة..

ولعل ذلك هو الدرس الاول من الانتفاضة الباسلة الذي يتقدم على الدروس الاخرى، وربما الى الان لم يستوعبه البعض ممن يعنيه الامر من السياسيين، فقد عاد الشعب بقوة ليمارس دوره الوطني في صنع القرار، ويكون الرقم الاصعب في المعادلة السياسية، وليس الكتل السياسية، وإن كانت تملك السلطة والقوة والنفوذ والمال، فقد كان مستحيلا عليها أن تمرر أي وجه من تلك الوجوه السياسية ترفضه ساحات الاحتجاج، ولا تنطبق عليه شروطها في المرشح مما جعلها تقع في خرق دستوري، وفوضى وخلافات وسجالات و(حيص بيص سياسية) وتصريحات متناقضة تنم عن حيرة وتخبط في تلمس الطريق للخروج من الازمة التي تتفاقم يوما بعد أخر، على العكس من المنتفضين فهم موحدون في الهدف، ومتمسكون بسلميتهم، ويزدادون قوة واصرارا، ويتصاعد مستوى الدعم المحلي والعالمي لهم، ولم تنل من إصرارهم على بلوغ ذلك الهدف جسامة التضحيات والظروف القاهرة، وفي مقدمتها دماء الشهداء الغالية التي جعلت الانتفاضة ترتقي الى مستوى معركة مصيرية من أجل إستعادة الوطن.. وطن لا مكان فيه للفساد والفاسدين.. وطن يستعيد عافيته على يد شباب ثائر يمتلك مشروعا وطنيا، وإرادة عالية على تحقيقه، ويطالب بحقه في الحياة والرفعة والتقدم والهيبة التي عرف بها وطنه.. وهو ليس بالامر العسير على الارادة الوطنية..

ليس مهما العنوان الوظيفي، ولا يعني شيئا أن يكون هذا أو ذاك في الموقع الاول في الدولة إن لم يحمل مشروعا وطنيا يقترن باسمه، ويعمل على تنفيذه بوضع خطة و برامج زمنية لانجازه..

والشباب العراقي لم ينزل الى الساحة بفورة عاطفية أو تدفعه حاجة ذاتية، بل يملك مشروعا وطنيا وضع عنوانه الكبير في الاول من تشرين الاول – اكتوبر (أريد وطنا) ومفردات هذا المشروع واضحة ودقيقة تلامس الواقع وتحقق الطموح ويلتقي العراقيون جميعا عليه..

وهناك تجارب كثيرة في العالم تؤكد دور القائد عندما ياتي الى السلطة وهو يحمل مشروعا وطنيا ينهض بالبلاد من كبوتها والوضع الصعب الذي وصلت اليه، من بينها تجربة روسيا بقيادة فلاديمير بوتين بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانفراط عقد جمهورياته وتعرض الانسان الى شتى أنواع الضغوط بما فيها الاقتصادية والفقر..

لذلك..

لم يأت بوتين الى الحكم  ليكون رئيسا، ورقما عاديا في تاريخ روسيا الرئاسي، إذ أنه جاء في فترة عصيبة – بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي، بل جاء يحمل مشروعا باعادة ماضي الاتحاد السوفيتي، ويعيد لروسيا دورها العالمي كقطب رئيس له تأثيره في السياسة العالمية بعد الانفراد الامريكي، ويمكن أن تتلمس ذلك من إجابته على سؤال صحفي عن الحدث التاريخي الذي شهدته روسيا، وكان يود تغييره رد على الفور (انهيار الاتحاد السوفيتي) ووصفه بانه أكبر كارثة جيوسياسية.. وانه سيمنع انهيار الاتحاد السوفيتي لو اتيحت له فرصة تغيير تاريخ روسيا الحديث..

ويوازي مثال روسيا – بوتين وانهيار الاتحاد السوفيتي مثال اخر يوازيه في الاهمية والخطورة والمهمة وهو إحتلال العراق وتدميره، فهو كارثة جيو سياسة أيضا، لكن هل من جاء الى الحكم بعد الاحتلال كان يحمل مشروعا يمكن أن يبني العراق ويعيد له دوره المحوري الاقليمي والدولي بمفردات وبرنامج مقسم على الزمن، ويحقق لانسانه ما يتمناه ليكون القاعدة الاساسية لهذا المشروع النهضوي الوطني الكبير، أم لا يزال الى اليوم لم يستطع أن يسد حاجة واحدة من حاجات المواطن  الاساسية وليس الكمالية، وهي الكهرباء رغم ما صرف عليها اموال طائلة.. وقس عليها مفردات أخرى كثيرة في التعليم والصحة والعمل والزراعة والصناعة والتكنلوجيا الخ.. والاخطر أن هناك مشاريع مهمة كانت قائمة أغلقت أو دمرت أو حلت بدل ان تعاد لها الحياة والعمل..

ليس موضوعي بوتين وحكمه، بل هو  مجرد مثال يرد في الذهن للمقارنة في الدور والمهمة والمرحلة التي يتصدى لها الشخص الاول في السلطة..

عشرون عاما مضت على وجود بوتين على راس السلطة في الكرملين، وسيستمر رئيسا حتى عام 2024 بحكم الدستور، وقد ترك بصمته الخاصة في تاريخ روسيا رغم ما يطرحه البعض عليه من ملاحظات.. فهناك من يتفق معه، وهناك من يختلف، ولكن هناك إتفاقا على أنه  نقيض سلفه، فقد حقق لروسيا انجازات وصفت بالمهمة في فترة عصيبة، وهو ما تطمح اليه سواء في الداخل أو على الصعيد الخارجي واستعادة هيبتها ومكانتها العالمية، سواء في مجلس الامن بالمحافظة على حق النقض، بما يمتلكه من قوة عسكرية ونووية يحسب لها حساب، أو في معارضته الولايات المتحدة في مسائل كثيرة، وانفرادها في العالم وفي عودته الى منطقة الشرق الاوسط بقوة ليمارس فيها دورا لا يمكن تجاوزه، وربما تكون عملية الاستيلاء على جزيرة القرم عام 2014 كاحد العلامات البارزة في تاريخه، ووصل بوتين بروسيا الى موقع مؤثر، بحيث أتهم بالتدخل في الانتخابات الامريكية..

أين العراق من ذلك المثال..؟.. وما هي الانجازات الاستراتيجية التي تحققت على مدى 16 عاما الماضية تعيد للعراق مكانته ودوره المحلي والاقليمي والعالمي؟..

– الانتفاضة أجابت..

– العراق كببر.. وليس صغيرا، أو دولة حديثة أو هامشية أو وهمية.. وقدر العراق أن يظل كبيرا بإنسانه وعطائه وتضحياته.. وحالة الوعي السياسي والارادة الصلبة لدى الشباب الثائر تؤكد تلك الحقيقة المتجذرة على الارض وفي النفوس والضمائر..

وكل على قدر مهمته

كلام مفيد: من المفيد أن تتحدث عن نفسك عندما يغمط الاخرون حقك..

ترددات نوا

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group