الشعب مصنع الحكام

علي يوسف الشكري

23/02/2020

يتفق الفقه الدستوري والمهتمون بشأن الدولة على أن دولة ما لا يمكن أن تنشأ وتستمر كيان دستوري ودولي معترف به دون أركان ثلاثة شعب وإقليم وسلطة. لكن شتان بين دولة ودولة، دول تعز الإنسان وأهله وتذل النفاق ومن يريد المساس بمن كرم الله، ودولة تذل أعزة القوم وساداتهم، دولة تجذب وأخر تطرد، دولة تخلق مستلزمات كرامة الشعب من العدم، وأخرى تختلق وسائل الهدر كي يبقى الشعب محتاجاً يسعى ولا يجد كي يستمر بالدوران في فلك المستبد الجاهل الحاقد المأزوم المحروم المتخلف الذي ما تركته عقد نقص الا وتجمعت فيه ولاحقته، فهو كاره للعالم وحاقد على الناجح وباغض للمنتمي وعدو لأبن الذوات، ومتربص للنزيه، الثروة عقدته فراح يغترف نهباً من ثروة شعبه حتى صنف من أثرياء العالم ولما تزل عقدة الفقر تؤرقه، والجاه إشكاليته التي لا علاج لها وإن اقترن بعد أن تمكن بالمصنفات من الأسر، والطهارة ونظافة اليد والقلب واللسان حلم راح يؤرقه، ويراد لهذا المبتلي أن يقسط بالحكم ويعدل بين الرعية ويحفظ المال العام ويرعى العلم ويقرب المختلف وينمي الثروة ويشكل دائرته من الذوات ويوازن بين الشقيق والصديق والإقليم والعالم على قاعدة مصلحة البلد فوق كل اعتبار والسيادة خط أحمر لا يمكن المساس بها بحال من الأحوال.

لقد حكم العراق في عهد الاستقلال الأول حاكم وافد وكأن ليس في العراق رجالات وأسر وأسياد وقادرون على الحكم لاعتقاد المحتل أن الوافد يبقى مدين منحني لمن جاء وجلب ونصّب ومكّن، وأثبتت التجربة أن الشعب العراقي حي لا يموت صلب لا يكسر منيع لا يقهر فقضى العهد الملكي جل أيامه حراك ديني وشعبوي وعشائري، ولم تكن المؤسسة العسكرية بعيدة عن المشاغلة لا انتصاراً وتحيزاً للشعب المتحرك ولكن رغبة في الإزاحة والحلول حتى تمكن بدعم خارجي، وخرج الشعب هاتفاً مناصراً مبايعاً وهو لا يعلم لما خرج ولمن بايع ولماذا ناصر، فالتغيير هاجسه واستبدال الحكام هدفه والانتفاض على القائم غايته، فكانت الحصيلة حركات عسكرية وتكميم للأفواه وتقاسم للسلطة واستبعاد للشعب، وكان هذا العهد شارعت الطريق لحكم العسكر الذي ظل شبحه يؤرق السياسي والعالم والمثقف والمتطلع بلحاظ أن العسكر راحوا يتداولون السلطة عسكري يرحل بدم وأخر يعتلي، نصرة الشعب شعار مشترك وتصحيح المسار حجة تقليدية للإطاحة والحلول والشرعية الاستثنائية مبرر للدستور المؤقت، الشقيق متآمر وصديق الراحل عدو والصبر على القائم من الشح ونقص الأموال وغياب الخدمات مقولات منقولة متداولة حتى حفظها الشعب عن ظهر قلب وراح الأفاق يرددها وأذيال النظام تروج لها، والشعب يصبر وينتظر ويعض على الجرح ويلتمس الأعذار ويختلق المبررات حقناً للدم وحفظاً لبيضة الوطن حيث لا ولن يتواني المستبد من السجن والاعتقال والتعذيب ولا بأس بالتصفية إذا اقتضى الأمر بذريعة أن حفظ أمن الدولة واستقرارها باستمرار حكم المستبد، عجيب أمرك شعب العراق تجوع وتعرى وتسجن وتهّجر وترحل وتُرحل وتقتل كي تطيح بمستبد لتنصب مستبداً.

خرجت الشعوب الحرة منتفضة على المستبد فقتلت وسبيت وصلبت ومُثّل بها مرة لا مرات فغيرت حكام واستبدلت نظم وأسست لدولة وحددت آليات وقــــيدت إرادات وانتزعت حريات ورسمت مسارات فعاشت القائم ورسمت المستقبل.

خرج الإنجليز على الملكية المطلقة المستبدة فاستبدلوها بالدستورية التي راحت نموذجاً لديمقراطيات العالم، وزج الفرنسي الثائر في غياهب السجون فأنتج نظام ديمقراطي ووثيقة لحقوق الإنسان راحت خالدة في ضمير الإنسانية، وانتفضت الولايات الأمريكية المحتلة على الغاصب الإنجليزي فأسست لأكبر وأقوى دولة.

في العراق قاتلت المرجعية الدينية والعشائر العراقية الإنجليز فنصّب حاكم وافد، وخرج الشعب مبايعاً المنقلبون على الوافد فأضحى حطب انقلاب ووقود حركات احتجاج ونزيل سجن.

وعاد الشعب مبايعاً وهاتفاً لمنظومة البعث المنقلبة على المنقلب بذريعة تكريس السلطة ورجعية النظام وكبت الحريات وتكميم الأفواه، فأزدادت السلطة تكريساً وتقييداً حتى صمّت الأفواه وامتلئت السجون بدعاة الحريات والديمقراطية، وما هي إلا أشهر قلائل وأطيح بمن أطاح وتولى، والشعب يناصر وينقسم ملل ونحل بعضهم يناهض وآخر يوالي وكلاهما يزداد فقراً وبؤساً وجوعاً، ومن تمكن وتولى يزداد مكنة وثراء ومنعة، وظلت حلقات الانقلابات والنصرة تتوالى والويلات تلاحق المبايع المهزوم، حتى رست سفينة الاستبداد على شاطىء من لا يرحم فراح الغالب يهتف فادياً الحاكم بدمه باذلاً الروح مرخصاً الغالي، والحاكم وفياً لما قدم من أجله فراح يحصد الأرواح مرة بداعي المعارضة العميلة وأخرى في حروب لا طائل من ورائها سوا إشباع نزعة الشر والرغبة بالقتل وسفك الدماء، وحطب الاستبداد يذهب جائعاً يتيماً معاقاً وكل الأمراض الاجتماعية تطارده لتفتك به وهو يهتف مفدياً القائد الذي اذله واجاعه وقتله وهجره بروحه.

عجيب أمرك شعب العراق تقتل فتوالي قاتلك وتجّوع فتنحي إجلالاً لمن أذلك  وتهّجر فتتحول في ارض الغربة الى سفير لمن غرّبك، متى تنتفض لكرامة اهدرت وتنقلب على منظومة أذلت وتطيح بقابض لم يأتِ عليك الا بالويلات، عجيب أمرك شعب العراق هل الزور في تاريخك أم حاضرك، فالقائم لا يطابق الماضي، والمنقول لا ينبأ  عن الحاضر، هل جاءت نظرية المؤامرة بثمارها فأنتجت شعباً مهادناً مقتنعاً صانعاً للطغاة، أم هكذا خلق العراق وشعبه والعيب بالتاريخ؟ وبالقطع أن العيب بالحاضر لا بالسالف، فما طغى حاكم وشعبه حي وما تمكن مستبد الا من شعب مهادن مستكين استمرء الذلة وقبل بالقائم، فكيفما يكون الشعب يولى عليه الحاكم، فللاستبداد ظرف وبيـــئة وحاضنة، وللحرية شعب وارادة وقرار، وبالقطع أن الشعب الذي كتب تاريخه في أنصع صفحات التاريخ سيكون قادراً على الانتفاض على الحاضر  والثأر للماضــي والجيل والمستقبل.

ترددات نوا

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group