الكاظمي.. وخياره الوحيد ربما: بين "عبد المهدي" و"أليندي"..!

فارس كمال نظمي

16/07/2020

لعل السؤال الجدير بالمقاربة العلمية اليوم لأهميته وجدليته، بالرغم من أن منشوري هذا لا يستهدف الإجابة عليه، هو: «هل يمكن عدّ حكومة مصطفى الكاظمي الحالية جزءاً مستولداً من النظام السياسي لا يغادره ولا يستطيع الانفصال عنه مشيمياً؟ أم هي عضو شاذ بات يريد النمو والتطور خارج النظام؟».

فليس جديداً أن تُعيد الأنظمة السياسية المتهالكة إعادة إنتاج نفسها بكيفيات متعددة حينما لا تستطيع الاحتجاجات/ الثورات استكمال أهدافها التقويضية للنظام. وهذا ما حدث مع ثورات الربيع العربي الأولى (مصر وتونس) والثانية (السودان والجزائر)، مع تمايزات نوعية وكمية تخص كل بلد. والأمر ذاته حدث مع تجارب الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية في أغلب بلدان أمريكا اللاتينية. ويبدو أن "احتضار القديم واستعصاء الجديد" (استلهاماً من غرامشي) ما يزال فاعلاً وسائداً في المخاض العراقي.

فالحكومة الحالية تعيش –سيكولوجياً- هاجسين معاً: إنها ترى القديم ميتاً أمامها ماثلاً وواضحاً، دون أن تجرؤ –لحد الآن- على المبادرة باستيلاد الجديد أو تستجلي السبيل لذلك، رغم نواياها الإصلاحية الحسنة. وهي في ذلك تبدو للمراقب كما لو أنها تمارس التخاذل والتواطؤ حيال الشبكات الزبائنية القابضة على عنق الدولة من جهة، فيما تضع (أي الحكومة) في الوقت نفسه سقوفاً خطابية عالية تغازل فيها دوافع التغيير لدى الجمهور الغاضب من جهة أخرى، دون أن تمتلك ستراتيجية متسقة ومدروسة لتحقيق ذلك سوى قرارات آنية مجتزأة تفتقر لشمولية الرؤية والتخطيط، لا تخلو من نوايا حسنة.

ما يزال شبح عادل عبد المهدي (رئيس الوزراء السابق) جاثماً ومهدداً لهوية الحكومة الحالية، مثل متحفٍ ينتظر تقادم الأشياء أو خروجها عن الخدمة ليضمّها إليه، بحكم أن السياق السياسي الفاسد قد يتغلب في النهاية على رومانسية النوايا السامية لأي شخصية سياسية إصلاحية غير ثورية حينما تنتقل من مجالها الذاتي "المثالي" إلى المجال المنظوماتي الشمولي.

أمام هذه الإشكالية الحرجة، تقف الحكومة الحالية ورئيسها مصطفى الكاظمي، في موقف شكسبيري مصيري ثنائي لا يتحمل خياراً ثالثاً (إذا ما استثنينا خيار الاستقالة). فإما شراء الوقت بصكوك التفاهة السياسية وما يعنيه ذلك –بمرور الوقت- من تحولها لشاهد زور من شهود الخراب وإنهاء مفهوم الدولة الوطنية لأمد غير محدود، وإما استعانتها بسيكولوجيا المنقذ المحارب، والأداء البطولي الذي يمنحها رمزانية ثورية حد التماهي بالضمير المجتمعي مهما كانت "مأساوية" النهايات (الكاظمي أطلق على نفسه لقب الشهيد الحي!)، وقد لا تكون مأساوية بالضرورة. وحتى هذا الخيار الثاني له توقيته العاجل الذي يجعل منه خياراً منتجاً وإلا أصبح خياراً فاقد الصلاحية ضمن ستراتيجيات الصراع وتقنياته النفسية. ومن الأمثلة النموذجية لذلك ما فعله سلفادور أليندي (1908- 1973)م الرئيس التشيلي المنتخب حينما قُتل بخوذته الحربية في القصر الرئاسي وهو يقاتل دفاعاً عن الشرعية، على أيدي العسكر الفاشست المنقلبين عليه من داخل السلطة بعد إصراره على منهجه الاشتراكي السلمي في تأميم الثروات المعدنية الكبرى للبلاد والإصلاح الزراعي والالتزام الحرفي بالسياقات الديمقراطية. تلك النهاية المأساوية انطوت على آفاق خلاصية غير محدودة اتضح رأسمالها الرمزي المتراكم بعد عقدين مظلمين حينما استعادت البلاد الحكم الديمقراطي.

وفي مقابل هذه الثنائية الشكسبيرية الحدية، يرى البعض أن ثمة طريق ثالثة وسطية "ناجعة" بات الكاظمي يتبعها هي سياسة "احتواء" الخصوم، عبر توزيع المناصب المهمة بين فاسدين ونزيهين، والتقدم الإصلاحي في ميدانٍ مقابل التريث في ميدان آخر، أو اختبار ردود أفعال الشبكات المنتهكة لسيادة الدولة عبر الإقدام ضدها حيناً ثم الإحجام عنها بعد قليل. هذا ما يمكن تسميته بــ"وهم الاحتواء" (في مقابل واقعية سياسة التصدي) أي استغراق الحكومة في أداء تفاوضي ضمني مع أقطاب الفساد وفصائل ما دون الدولة وبقية النخب السياسية النهّابة لثروات البلاد والهدّامة لبناها كافة، بهدف تحييد البعض وكسب البعض وإلهاء البعض، وصولاً إلى "احتوائهم" بما يسمح بإصلاحات تدريجية عبر تفكيك المنظومات الفاسدة تباعاً.

هذه الستراتيجية يمكن أن تصحَّ في بلدان مستقرة سياسياً واقتصادياً وأمنياً بدرجة ما. أما في الدول الهشة المنهكة بالصراعات الإثنية والتطرف السياسي والفساد الشامل والإفلاس التام كالعراق، فإن الإغراق في سياسات الاحتواء لا يعني في الغالب أكثر من إرضاءٍ سيكولوجي وهمي لذات صاحبها، مع إتاحة فرص جديدة للمنظومات الفاسدة لكي تعيد هيكلة بُناها بما يمنحها عمراً أطول لإدامة سلطتها السياسية الحاكمة، أي تنجح هي في احتواء الحكومة لا العكس.
.
السؤال المفصلي اليوم: إلى أين سيتجه الكاظمي؟ إلى متحف عبد المهدي حيث المحنطات السياسية بأسعار بخسة؟ أم إلى أفق أليندي حيث ترميم المستقبل ولو بأثمان غالية؟ أم هي الاستقالة؟!

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group