في ذكرى: شاعر كردستان الجميل، عاشق الفرات، شيركو بيكه س

حسين الهنداوي

31/01/2021

رحل شيركو بيكه س، الشاعر الكبير وابن الشاعر الكبير فائق بيكه س، قبل نحو سنوات تسع من إحدى مستشفيات السويد دون وداع، والى الابد بعد صراع غير متكافئ مع سرطان الرئة. ورحل شيركو شابا عن عمر لم يزد عن السبعين الا بثلاث فقط حاملا معه الى الهباء الطلق كل ذلك العنفوان البدئي، عنفوان النطفة الاولى، بل كل قلق وعبثية وجود دنيوي وافكار وقصائد لم تولد بعد او لن تولد ابدا كي تضاف الى نصوصه الكثيرة الاخرى النابضة التي ضمها عمل شعري خلاق اغنى اللغة الكردية الحديثة بلا جدال، وبتواصل مدهش الثراء منذ إصدار أول ديوان له عام 1968، لتتجاوز مؤلفاته الثلاثين مجموعة وكتاب ضمت القصائد والمسرحيات الشعرية والنصوص الحرة والقصص الشعرية وترجمات مختارات منها إلى أكثر من عشر لغات في العالم.
وشيركو شاعر احب بعنف كردستان والثقافة والحرية والموسيقى والناس كما احب العراق والسويد واليسار والشمس الا انه احب الشعر خاصة اكثر منهم ومن اي شيء آخر: "لقد تزوجت الشعر وهذا أكبر من الشغف اليومي" قال مرة في ما يشبه البوح للنفس.
علاقتي مع شيركو كانت موسمية ومبعثرة الا انها كانت حميمة لا سيما قبل عام 2000. كنت اعرف مقاطع من شعره المقاوم للفاشية البعثية منذ نهاية السبعينات. الا انني لم التق به للمرة الاولى سوى في لندن قبل ثلاثين سنة في امسية شعرية صغيرة ورائعة اقمناها له تنقلنا اثرها من دار صديق الى آخر حتى الفجر. والتقيته في اربيل مرارا عام 1993 وكان وزيرا للثقافة لم اهنئه خلالها على منصبه ذاك ولم يأخذه هو نفسه مأخذ المجد ابدا. فشيركو كان قد اكتشف سريعا ان الكتابة والابداع، لا الوزارة ولا الاحزاب ولا الشعارات، ما ينبغي التفرغ له للنهوض بثقافة شعبه. ونفس الحال في لقاء طويل عام 2002 في دمشق برفقة الصديق الراحل ذو النفس السخية عادل مراد، وكان الحب والشعر والموسيقى والنساء والحياة مواضيع شيركو بيكه س الاقرب الى روح اخاذة لشدة تعلقها الفطري والسافر بالحرية واحيانا لمجرد الشغف بالحياة وبطفولة تشبث بها بقوة كي لا تهرب من بين يديه كالحلم:
حين كبرتُ،
رأى معصم يدي اليسرى،
الكثير من الساعات؛
لكن، قلبي لم يفرح،
مثلما كان يفرح،
حينما كانت أمي تعض معصمي الأيسر،
وأنا طفل،
تعمل بأسنانها
ساعتها على يدي.
لكن الوصول الاعمق الى عبقرية شاعرية شيركو وعبرها الى تلافيف الألم االكردستاني احتاج الى اكتشافات اعمق واثرى لجمالياتها. وكانت هذه مهمة صعبة قبل عقدين لولا" عثوري على كتاب " مرايا صغيرة" الذي تضمن نصوصا لمجموعـة قصائد لشيركو بيكه س، مترجمة الى العربية من قبل «مجموعة من الادباء الاكراد!»- دار الاهالي- دمشق). ودفعة واحدة يبرز شيركو بيكه س بمثابة «امير الشعر الكردي المعاصر الذي تتهافت جنية الشعر على قدميه، متضرعة فكّ اسارها، فيقمقمها في قصائد مختزلة، ومطلسمة، تاركاً لنفسه، وحده، حق فك الطلاسم»، كما كتب صلاح برواري مرة. كما ظهرت قصائد لشيركو بيكه س من بينها «بيانو الثلج»، «حلبجة»، «رجلان»، «معاً»... وقصائد اخرى في مجلة «الكرمل» الفلسطينية او في مطبوعات عربية اخرى غيرها، عبرت بشكل عام عن اسلوب شيركو الشائع في الكتابة حيث اللقطة هي الاساس. يقول الشاعر مثلاً في «بيانو الثلج»:
«ذات مرة، والوقت خريف
طارت اسراب السنونو،
صفاً صفّا،
من قلوب شعراء القارات الخمسة في هذا العالم.
ورويداً رويداً
دخلت قفصاً
فتحول القفص، بالنتيجة
الى "بيانو".
لكن هذه القصائد ليست اهم قصائد هذا الشاعر حتى انذاك وبالتالي ظلت جزئية في الكشف عن مساحة الحالة الشعرية لديه. كما لا تعكس عمق التباينات داخل شعره والشعر الكردي المعاصر عموما اذا اكتفينا بها لا سيما وانها توحي بمرحلة كورانية (بتأثير الشاعر الكردي الكبير المجدد عبد الله كوران) بعد. لكن «مرايا صغيرة» تنقلنا الى اجواء جميلة كلياً. فاشعار شيركو بيكه س تأخذ طابع مجموعة متكاملة يمكن من خلالها دراسة شاعر كردي معاصر، لأول مرة بالعربية، دراسة تحيط بكل خصوصياته. فلغة المترجم هنا تشي بوقوف شاعر خلفها، وتنوعية محاور النصوص، وعدم الاقتصار على اللحظة السياسية، اضفت ابعاداً اخرى على المنجز الشعري الكردي المعاصر، لا سيما الخاص بهذا الشاعر، كانت تؤجل عادة في السابق حيث الانطباع ان علاقة الشعر الكردي بالمباشر السياسي هي علاقة «تكون او لا تكون». فـ «شاعر اللقطة» هنا يترك اللقطة تقوده الى عوالم اخرى، اكثر وجداً في نزوعه نحو كونية لم نعرفها من قبل على الاقل في المترجم لدينا من الشعر الكردي الحديث. كردستان في مركز القلب بل هي القلب والام والابنة والزوجة والحبيبة لدى الشاعر، هذه قداسة مباركة نعرفها جيداً:
«اذا كان حبّكِ مطراً
فانا واقفٌ تحته
واذا كان حبّكِ ناراً
فانا جالس في وهجه...»
لكن الماء لا الارض هو لحظة الروح الاولى، ولحظة التنافح بالاسرار لديه. والماء هو الفرات او لا شيء. من دموعه تشرب الالهة، «ومن جبل الى جبل... وعندما يخفق جناحا النعاس في عيني، اسمع الفرات وهو لا يزال يئن ويصرخ..». وفوق الفرات غداً ستطلّ هه لبه ست، ابنة الشاعر، «لتنثر الفضة بهدوء»، ولتغني «ياكردستان ياحبيبتي». لكأن الفرات، وحده بين الانهار، من يؤتمن على الاغاني لا سيما اذا كانت كردية وحزينة. فالفرات الذي عليه عبرت كل اغاني ودموع فقراء كردستان وهي في طريقها الى التهجير والمنافي وربما منذ بدء الخليقة، لا ينسى العهد ابداً:
«غالباً ما يجيء الفرات وهو يسعل
ويجلس الى جانبي
ثم يأخذ امواج لحيته بيده ويقول:
- هات شعراً
فالذي يبقى حتى النهاية
هو مائي
وتلك القصائد التي لا تنسى الفقراء...»
شاعر الفرات الذي عاش على ضفافه شيركو منفيا لثلاث سنوات كما هو شاعر كردستان: «لولا حبك ومياه الفرات ما كانت تولد هذه الابيات». هما نصفاه وهو ساحة الضوء بينهما:
«حَرِكةٌ هي اصابع الروح
تعصف بضفائرها الى الوراء،
مبللة هي اصابع الروح
تُمطر في عينيها الندى
اراها تأتي من الفرات
تجتاز البقع المشمسة في بساتين النخيل
تخطو.. تتمايل خائرة القوى
يعوم نصف جسدها في الظل
وترقص ساعة الشمس فوق نصفها الآخر...»
وها هو الاستنتاج الخفي يقفز تلقائيا: لقد رحل شيركو بيكه س بعيدا عن العراق لكن هذا ظل ينبض في شعره ورئتيه علنا وسرّا، كمحطة حميمة وجارحة في آن في رحلة غربته الطويلة تلك:
طويل هو دخان هذه الغابة الحزينة كقامة خارطتي.
طويل هو دمع هذه الجبال، بل أطول من "دجلة" و"الفرات".
طويل هو إحتراق أوراق العشب على مدى رؤية عيني جراحي.
طويلة هي عذابات ألفبائي، من هنا، حتى "خاني".
طويلة.. طويلة.. طويلة هي غربتي،
أطول من كل سكك الحديد في أوربا،
لذا، لاأعرف ماالذي سأرويه لكم،
لاأعرف ما..
لاأعرف..
لا..
انتهى

ترددات نوا

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group