الزيارة البابوية وتهافتُ الساسة!

فارس كمال نظمي

16/03/2021

في زيارته إلى العراق، لم يأتٍ البابا فرانسيس الأول من الفاتيكان الكائنة في قلب روما فحسب، بل جاء أيضاً من أعماق المؤسسة الدينية الكبرى في العالم بعدد أتباعها، بوصفه وريثاً مستنيراً لتطورات عميقة نقلت الكاثوليكية من السلفية المسيحية ومحاكم التفتيش ومحاكمة غاليليو في القرون الوسطى، إلى الاعتراف الرسمي في 2008 بنظرية داروين في النشوء والارتقاء (أصل الأنواع) بكونها تتفق مع الكتاب المقدس طبقاً لوزير الثقافة الفاتيكاني؛ وأيضاً قبول البابا فرانسيس نفسه بنظرية الانفجار العظيم Big Bang theory بقوله أن «الانفجار العظيم الذي يعدّ اليوم أصل نشأة العالم لا يتناقض مع التدخل الإبداعي لله»؛ فضلاً عن مواقفه الإصلاحية حيال مسألة الحريات الجنسية بقوله «للمثليين حق العيش في أسرة، فهم أبناء الله، ولا ينبغي طرد أحد أو تحويله إلى بائس بسبب ذلك» بالرغم من أنه يرفض رسمياً زواج المثليين.
وأسقف روما (البابا) بهذا المعنى فكرة دينية طورتها عصور النهضة والتنوير والحداثة قبل أن يكون شخصاً مجسداً يقوم بزيارة رسمية لبلد أضطُهِدت -وما تزال تُضطهد- فيه الأقليات والأكثريات على مر العصور. ومع ذلك فقد جرى استقباله من الجميع في العراق تقريباً بوصفه أيقونة مجسدة ومشخصنة تستحق الانبهار اللحظوي لا بوصفه فكرة حية تحمل في ثناياها حكمة الزمن الديني في انتقاله الجدلي من إقصاء الآخر ونفيه إلى الإصغاء له وتوقيره.
فأسبغ العراقيون العوام سرديتهم التعويضية عليه، ليروا فيه ما يفتقدونه – وما يحلمون به- في حياتهم من معاني السلام والكرامة والتسامح والأمل، وهم في ذلك يمارسون الاستقواء النفسي المشروع وسط عالمٍ ظالم موحش أضعفهم حد اليأس. فانشغل المخيال الاجتماعي بإعادة النظر في التصنيفات التقليدية السائدة عن الأديان مزيلاً الحدود الفاصلة بينها مؤقتاً، في مسعى رغبوي للخروج من الخنادق الطوائفية المتضادة إلى فضاء «إيماني» عابر للاهوتيات السياسة الفرعية، فأصبح البابا رمزاً للدين كله أياً كانت مسمياته.
كانت لحظة للخروج من المألوف الرتيب الخانق بصراعيته المقلقة إلى المدهش البسيط الفسيح بتعدديته الموحدة «الآمنة». كانت مناسبة عميقة وعابرة في الوقت نفسه ليعيد الناس –ولأيام قليلة- ترميم صورة الأب المهشمة في أعماقهم، بعد أن خانهم آباء كثيرون سابقون ثبتت «خيانتهم» و»غدرهم» و»فسادهم». فأسقطوا حاجتهم لمنقذٍ رؤوفٍ أمينٍ نزيه، على الأيقونة البابوية «القادرة إعجازياً ربما» على إيقاف الخراب واستعادة المحبة الجماعية المغيبة.
أما النخب السياسية وممثلوهم في السلطة فوجدوا في زيارته فرصة -قصدية أو لا شعورية- ليتأمثلوا حد «الطهر» و»الورع» و»الخشوع» في تمجيدهم له وتسابقهم حد التهافت ليكونوا قربه أينما ذهب، إذ «يجوز» غسل الذنوب في حضرته، بل يجوز أن يصبحوا – بين ليلة وضحاها- أنصاراً لمنهجه، فيستعيرون هويته التصالحية مؤقتاً لترميم هوياتهم القاتلة. كما يجوز ممارسة حب الظهور إذ ستبدو الذات المجوفة أكثر «وقاراً» و»ثباتاً» «وقيمة» في مجلس من يمتلك كارزما التأثير المطلق في مئات ملايين الأتباع. فليس عيباً أن يستثمروا في كل شيء بما فيه زيارة البابا ليراكموا رأسمالاً نفسياً تطهرياً، أو يبتنوا على عجالة سرديةً ناصعة عن «صفاء» أعماقهم، لتمنحهم صورة «ملائكية» عن ذواتهم التي «خربتها» صراعات السياسة وأزمات المجتمع، حتى لو كانت صورة مؤقتة لدقائق تنقلها وسائلُ إعلامٍ مغرمة باللقطات العابرة لا بتقصي ما وراء الحدث.
وما أن انتهت التغطية الإعلامية لهذه الصورة «الملائكية»، وقبل أن يغادر البابا العراق، حتى هرع بعضهم من جديد إلى مهنته الأصلية في أسلمة الدولة وتطييفها، عبر السعي لتمرير قانون المحكمة الاتحادية العليا الجديد في البرلمان، والمتضمن مقترحات بتعيين فقهاء من المذهبين السنّي والشيعي ليكونوا أعضاء في المحكمة لهم حق التصويت على القرارات في الدعاوى التي تخص «ثوابت» الإسلام. فلم ينتظروا أن «ينسى» الناسُ الصلاة الموحدة بين الأديان التي أقامها البابا في أور، حتى هرولوا لزج الدولة ومؤسساتها القانونية في نفق طويل من التنازع العقيم حول بنودٍ عالجها الدستور العراقي والشرعة الدولية بوصفها بديهيات مساواتية تعلو على الدين والمذهب والعِرق والجنس والمعتقد؛ في محاولة للالتفاف على أصل الصراع السياسي الاجتماعي الجذري بين المالكين الفاسدين والفاقدين المهمشين، ولتمييع الوعي المدني المجتمعي المتصاعد به، وتحويله إلى صراع لاهوتي ثانوي وهمي مكانه الغيب في السماء الغامضة لا على الأرض المبتلاة بآلام المحرومين والمقهورين وعذاباتهم الواضحة.
البابا في كل كلماته وايماءاته ونظراته وحركاته أثناء الزيارة كان صارماً بتواضع ومتوحِداً بالفكرة الإصلاحية التي حملته إلى بلدٍ مزقه الاستبداد والفساد والتطرّف والدين السياسي. لم يفقد –بسنواته الخمس والثمانين- إيقاع الحركة أبداً بركنيها الجسدي والمعنوي، بل كان “عراقياً” يتصرف بألفة وأريحية دون أن يكف عن إحساسه بالخراب والآلام الصامتة حوله. وفي المقابل ظل الساسة الحاضرون منتشين حد الغرور بفرصة حضورهم التطهرية بين أيديه وأمام أيقونته المجسدة، دون أن ينتبهوا –ولعلهم انتبهوا- إلى ظلال كلماته القادحة عميقاً في شرعية سلطانهم. قال في قداس كاتدرائية مار يوسف في بغداد، وكررها بصيغ متعددة ومتنوعة في مرات أخرى: «..إن الفقراء والباكين والمضطهدين هم المطوّبون....ليس الكبير من يملك، بل الفقير في الروح، ليس الذي يقدر أن يفرض كل شيء على غيره، بل الوديع مع الجميع، ليس من تهتف له الجموع، بل من يرحم أخاه... ».
قد يكون الحديث في العراق عن “الرحمة السياسية” أمراً مبالغاً فيه ويقع في إطار الخيال السياسي، لكن لغة البابا وزيارته أعادتا الاعتبار إلى هذا المصطلح، ليتم التذكير به على الأقل - ولو مؤقتاً- في ظل هيمنة القسوة السياسية التي لم تمنع صقور الطوائف والسلاح من التحول – لساعات قليلة- إلى حمائم وديعة في حضرة سيد دولة الفاتيكان..!

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group