"تُراب الوطن يحتضر": من أين سيأكل العراقيون؟
خالد سليمان
لأن الأرض الصالحة للزراعة تُقتل، ولأن الأنهار
تواجه الجفاف، ولأن الحرارة ترتفع أكثر من المعدّل العالمي.. هل يُصبح المطبخ
العراقي الشهيّ حنيناً مرضياً؟ عن تراب الوطن الذي يحتضر ولا تحرك حقيقياً لإنقاذه..
يحبُّ العراقيون، بطبعهم، الوجبات الغنيّة
باللحوم والخبز والأرز، وهم لذلك يربطون
طعامهم بالمفاخرة: إنها لحومٌ عراقية لذيذة، إنه خبز عراقيّ، رُز عنبر … الخ. ولو
تجوّل أيُّ متابع في علاقة العراقيين بالغذاء في المطاعم المحلية، سيلاحظ إفراطاً
و”كَرَماً” كبيرين في تقديم وتناول الغذاء.
وقد انتشر هذا الكَرَم المفرط حتى على شبكات
التواصل الاجتماعي حيث برزت أسماء كثيرة لطهاة ومروجين للمطبخ العراقي الشهي، إنما
دون أي حساب للموارد والمصادر التي تشير معطيات الواقع الزراعي إلى تضاؤلها
وفقدانها خلال السنوات القليلة القادمة.
إنها التربة
دعونا نعاين مفارقات المشهد العراقي عبر مصادر
الغذاء، وهي في الحقيقة، على الرغم من أهميتها وارتباطها الوثيق بوجود العراق
كجغرافية بشرية وتاريخية، إلا أنها لا تثير شهية السجالات العامة والإعلام، ولا
تعيرها الحكومة اهتماماً: إنها التربة، أصل الحياة والزراعة والإدامة. فمن دون
التربة يختفي كل ذلك البذخ المنتشر في المطبخ العراقي، الواقعي منه والافتراضي.
تشير بيانات وزارة التخطيط الى أن مساحة
التصحّر في الأراضي الزراعية في العراق بلغت 15.6 بالمئة، فيما تصل مساحة الأراضي
المهدّدة بالتصحر، بما في ذلك الأراضي الصحراوية إلى 54.2 بالمئة. ويؤخذ في
الحسبان في هذا السياق، مناخ العراق الصحراوي شبه المداري الذي يسود 70 بالمئة من
مساحته، ولا تتجاوز فيه معدلات الأمطار السنوية 200 مليمتر.
تالياً، وبناءً على هذه البيانات التي تشمل
عامي 2020-2021 والتي صدرت حديثاً عن الجهاز المركزي للإحصاء، يلامس مجموع الأراضي
المتدهورة والمعرضة للتدهور ما يقارب 70 بالمئة. وبحسب تقرير آخر لبعثة برنامج
الأمم المتحدة الإنمائي في العراق، يفقد البلد نحو 400 ألف دونم من الأراضي
الزراعية سنوياً بسبب التغيّرات المناخية، أي أن التربة الغنية الصالحة للزراعة،
والتي يخسرها العراق سنوياً، تعادل ضعف مساحة العاصمة بغداد.
أرض بلا أنهار
استناداً إلى معطيات الواقع البيئي المتدهور،
فإن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة والإنتاج في العراق لا تتجاوز 30 بالمئة، وهي
أيضاً تتعرض لضغوطات مناخية وبشرية هائلة مثل ندرة المياه، العواصف الغبارية، الاستخدام
المفرط والتوسّع العمراني العشوائي. وبينما يزداد عدد سكان العراق مليون شخص كل
عام، يزداد الطلب على الغذاء، المياه، السكن، والطاقة بشكل غير متكافئ مع الموارد
الطبيعية. واستناداً إلى World Population Review، بلغ عدد سكان العراق
45.5 مليون نسمة، وسيستمر بالنمو لبقية القرن، حتى يتجاوز 100 مليون نسمة بحلول
نهاية عام 2085. وفي ظل تصاعد هذا المؤشر السكاني، تشهد قطاعات التعليم، الصحة
والزراعة تراجعاً ملحوظاً، الأمر الذي يشكل المزيد من الضغط على النظم البيئية
والموارد الطبيعية.
تقف كل العوامل المذكورة وراء تصنيف العراق في
المرتبة الخامسة بين الدول الأكثر عرضة للتأثر بالتغيّر المناخي حيث تزداد درجة
الحرارة بين 2 و7 مرات أسرع من درجات الحرارة العالمية القياسية. ومن المتوقع أن
يكون البلد أرضاً بلا أنهار بحلول 2040، وأن يتحول نهرا دجلة والفرات قبل ذلك في
عموم العراق إلى مجارٍ مائية صغيرة محدودة الموارد.
تتضح هذه الآثار المترتبة عن تدهور التربة
والأراضي الزراعية في بيانات وزارة التخطيط بشكل واضح حيث تؤكد المؤشرات الرئيسية
لمحصولي الحنطة والشعير أن تراجعا كبيرا حصل في السنوات الأخيرة. ففيما بلغ محصولي
الحنطة والشعير 266 ألف طن في عام 2021، تراجع المحصول في عام 2022 إلى أقل من 150
ألف طن.
الخفايا والسياسات الخاطئة
غالباً، تقتصر إجابات الحكومة العراقية
والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة بخصوص تدهور التربة والأراضي الزراعية في العراق
على الآثار الناجمة عن تغيّر المناخ، ويتجنبون الحديث عن ذلك.
تتحكم كل من تركيا وإيران بالمياه الدولية من
جانب، وبشكل سيئ تدير السلطات العراقية الموارد الطبيعية محلياً من جانب ثانٍ.
وبحسب بعثة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق فإن “موسم هطول الأمطار في
العراق 2020 ـ 2021 هو الثاني من حيث الجفاف خلال 40 عاماً، الأمر الذي تسبّب في
انخفاض تدفق المياه بنهري دجلة والفرات بنسبة 29 بالمئة و73 بالمئة على التوالي،
مما أدى إلى انخفاض كمية المياه”. الملاحظة الأولى بخصوص هذا الكلام، هي أن الأمم
المتحدة تتجنّب خوفاً أو عمداً، الحديث عن أثر السدود التركية العملاقة على تدفق
المياه في النهرين، وكأن العراق جزيرة معزولة عن العالم وتتعرّض وحدها لآثار تغيُّر
المناخ وتراجع هطول الأمطار! إنهم باختصار شديد لا يريدون ذكر الحقيقة، وكما كتب
الشاعر والمتصوف الكُردي (محوي) يتبدى على الأرض كبرج ناصع/ عبثاً ان يبحث المسيح
في السماء.
إن ملفَ أزمة المياه بين عراق “ضعيف” وجارتين
“قويتين” شائك جداً ومحاط بألغام أمنية وسياسية، ومحلياً هناك ثلاثة عوامل رئيسية
تحول دون مكافحة آثار تغيّر المناخ وسبل التأقلم معها ووضع حد للتدهور الحاصل في
النظم البيئية.
يتمثل العامل الأول بتفضيل الصناعة النفطية على
القطاع الزراعي وهو أمر مدفوع بالمزيد من التدهور، ذلك أن عملية إنتاج كل برميل من
النفط تستهلك ضعف الكمية من المياه. وبحسب إحصاءات وزارة التخطيط بلغ معدل الإنتاج
وصادرات النفط العراقي 3 ملايين و450 ألف برميل يومياً في عام 2022، ما يكلف نحو
عشرة ملايين برميل من المياه يومياً، في الوقت الذي تعد ندرة المياه السبب وراء
التصحُّر وتدهور التربة الزراعية. وتُعد وسائل الري القديمة، بما في ذلك الري
السيحي، العامل الثاني في هدر كميات كبيرة من الماء بسبب التبخر، التسرب، والتدفق
الزائد للمياه أثناء الري. ويمكن لوسائل الري القديمة أن تكون فعالة ومنتجة لفصل
واحد، إنما ليست مستدامة وتترك آثاراً مستقبلية قاتلة على التربة، بالإضافة
للتكلفة الإنتاجية العالية والتأثير السلبي على جودة المحاصيل. أما العامل الثالث
فهو الاستغلال غير المنتظم للتربة، كما الاستخدام المفرط للمبيدات الحشرية.
ويعد الاستغلال غير المنتظم للتربة، واستخدام
المبيدات الحشرية والمخصبات تحديداً، من بين الأخطار التي تترك آثاراً سلبية طويلة
الأمد على التربة، ذلك أن الكيمياويات قد تساهم في تخصيب التربة لأمد قصير، إنما
تجرّدها قدرتها على الإنتاجية طويلة المدى جرّاء القضاء على تنوّع التربة
الأحيائي. وقد وجد المبيد الحشري تريبون Trebon من بين الأسمدة الكيمياوية التي ما
زالت مستخدمة في العراق وتمنحها الحكومة للمزارعين والفلاحين كما جاء في تقرير
وزارة التخطيط. ويحتوي هذا المبيد الحشري على (إيميداكلوبريد) حيث كان يستخدم على
نطاق واسع في الزراعة والبستنة، بينما حُظر اعتباراً من شهر أيلول 2021 من دول
الاتحاد الأوروبي بسبب آثاره الضارة على التربة وعلى النحل والملقّحات الأخرى.
وتتوسط كائنات التربة في وظائف فريدة تعتمد
عليها البشرية في الغذاء، والألياف، وصحة الإنسان والنظم البيئية. وللتربة قدرة
على أن تكون موئلاً لـ59 بالمئة للأنواع (الميكروبات، البكتيريا وحتى الثدييات
الصغيرة …الخ)، مما يجعلها الأكثر تنوعاً من ناحية التنوع الحيوي على وجه الأرض.
وعلى الرغم من أهمية حياة التربة، فإننا نفتقر إلى تقدير كميّ للتنوع الحيوي
للتربة، ما يجعل من الصعب الدعوة إلى أهمية حمايتها والحفاظ عليها واستعادتها.
لا يمكن القول بأن الحكومة العراقية تجهل هذه
الحقائق العلمية حول تنوّع التربة الأحيائي والأضرار غير القابلة للإصلاح التي
تلحقها بها المبيدات الحشرية، إنما يمكن القول فقط، بأنها غير آبهة بما يحصل للنظم
البيئية والبشرية.
الغليان
الحال هذه، أين المفرّ ومن أين يأكل العراقيون
ويحصلون على مصادر غذائهم مستقبلاً؟ وهل تستمر التضحية بالتربة من أجل النفط؟ لا
يفكر المواطنون العاديون بمثل هذه الأسئلة، ذلك أنهم ببساطة شديدة يجهلون الأسباب
الحقيقية للتدهور الحاصل في بلدهم من جانب، ويجدون أنفسهم أمام الأسواق المحلية
المعبأة بالأغذية التركية والإيرانية من جانب آخر؛ بينما توقد صورة “بلاد
الرافدين” الرومانسية مخيلتهم الشعرية الفطرية وتغذي الحنين الإنساني لديهم.
أما النخب الحاكمة فهي غارقة في جهل وفساد
“عظيمين” قلّ نظيرهما في العالم، ولا تعرف كيف ترسم صورة لغد آمن في حال إدراكها
حجم وكمية الأخطار. قبل أسابيع من كتابة هذا المقال، سألت مسؤولاً عراقياً سابقاً،
تولّى مناصب رفيعة، عن أسباب عجز الحكومة ومجمل الطبقة الحاكمة أمام أخطار آثار
تغيّر المناخ والتدهور البيئي الحاصل، فأجابني باقتضاب: “انهم يدركون حجم
التهديدات والمخاطر البيئية، انما لا يعرفون ماذا يعملون”. في جانب منه، لا يبدو
هذا الجواب مقنعاً، لأن الكشف عن أسباب الأزمة وسبل مواجهتها قد ينهي مستقبل أي
حاكم في العراق. على سبيل المثال، لو تطرق رئيس الحكومة الى مسألة التنظيم السكاني
والصحة الإنجابية، هل يمكن أن يقاوم أمام القادة الشعبويين والمتطرفين الذين لم
يهجرهم الاعتقاد الشعبي السائد: يأتي كل طفل برزقه؟!
أثناء زيارته للعراق في شهر آب 2023، حذّر
فولكر تورك، المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، من أن ما يشهده العراق
من جفاف وارتفاع في درجات الحرارة هو بمثابة “إنذار” للعالم أجمع. وأشار المسؤول
الدولي إلى أن العراق يعيش عصر الغليان في كل يوم، واستعاد بذلك تعبيراً استخدمه
أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة حين قال في تموز 2023، “انتهى عصر
الاحتباس الحراري. حلّ عصر الغليان العالمي”.
إنه تحذير لخطر وجودي، لا يحتمل تأجيل التفكير
بعواقبه الوخيمة على البلاد وإمكانية بقائها كأرض قابلة للحياة. وإذا بقيت الطبقة
الحاكمة أسيرة جهلها العظيم، سوف تدفع الأجيال القادمة الضريبة الكُبرى وتجد نفسها
على تربة غير صالحة للزراعة وإنتاج الغذاء. حينئذ يصبح المطبخ العراقي الشهي
حنيناً مرضياً ويحصد كل طفل من الملايين السنوية ما زرع له من عوز وجوع.
ترددات نوا