كان من مضاعفات الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة الفلسطيني، تكثيف المراقبة وتشديد المحاسبة على اصحاب الرأي الذين وقفوا إلى جانب الحق الفلسطيني وتبنوا الشعار الذي ترفعه القوى الاسلاميّة عادة (من النهر إلى البحر). في الولايات المتحدة الامريكية وفي دول غربية أخرى صار ترديد هذا الشعار في وسائل التواصل الاجتماعي، يمثل موقفا معاديا للسامية، وكل موقف صريح ضد السلوك الاسرائيلي تاريخيا أو حاضرا يصنف غربياً بانه (ضد السامية) يستدعي محاسبة مطلقه وربما فصله من عمله أو اعتقاله عملياً تفسّر السلطات في الغرب ترديد شعار من النهر إلى البحر، بأنّه تكرار لموقف عربي قديم، كان يرفض اي شكل من اشكال التعامل أو الاعتراف بوجود الدولة العبرية، ويصر على تحرير ارض فلسطين كلها من حدود نهر الاردن شرقا إلى البحر المتوسط غربا. كان ذلك في ذروة الصعود القومي العروبي، وكان من يتجرأ خلاف هذا التفكير يلاقي صنوفا من الرفض والتخوين والشتائم السياسية، فالعرب عامة والفلسطينيون خاصة، رفضوا مبدئيا قرار التقسيم الذي اصدرته الامم المتحدة وتمسكوا بحق عودة اللاجئين، ورفض الكثير منهم خطاب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عام 1965 في مدينة اريحا الفلسطينية الذي دعا فيه إلى القبول بقرار التقسيم واقامة الدولة الفلسطينية على الجزء الذي بقي من أرض فلسطين. بعد هزيمة حزيران العربية عام 1967 وأفول نجم التيار القومي واقرار النظام السياسي العربي باستحالة تحرير فلسطين كلها، حل التيار الاسلامي محل التيار القومي بالمطالبة بإزالة (اسرائيل) من الوجود، وعدم القبول بمعادلة الامر الواقع التي قبل بها النظام السياسي العربي، وجعل محور سياساته تقوم على مبدأ (الارض مقابل السلام)، بمعنى اعادة الارض الفلسطينية المحتلة عام 1967 إلى اهلها، مقابل الاعتراف باسرائيل واقامة السلام وتطبيع العلاقات معها. الاسرائيليون هم من رفضوا اعادة الاراضي الفلسطينية والعربية المحتلة بموجب القرار الدولي 242، ومهدوا بهذا الموقف لانقسام سياسي حاد بين قوى اسلامية ترفض القبول بوجود اسرائيل، وقوى غير اسلامية (قومية ووطنية) قبلت بهذا الوجود على امل اقامة دولة فلسطينية تنهي مأساة الشعب الفلسطيني، المائز بين الرؤيتين الدينية ومقابلها، ان الاولى جعلت الارض مركزا لايديولوجيتها في مقابل من جعل الانسان الفلسطيني مركزا لايديولوجيته السياسية، الاولى ترى الصبر والانتظار والمقاومة لحين انهيار معادلات القوة الراهنة ومن ثم انهيار الكيان الصهيوني، وهذه الرؤية ترتبط بتفسير للتاريخ وللخطاب القرآني والمستقبل الموعود بـ (ظهور المهدي ونزول المسيح عيسى)، ولم يكن مستغرباً أن يربط قادة عسكريون وخطباء دينيون وارباب خطاب اعلامي، ما حدث في المعركة الاخيرة (طوفان الاقصى) وبين تصورهم لنهاية التدافع السياسي والعسكري والمفاهيمي الجاري في منطقتنا، فهنا معسكر للمقاومة يتبنى رؤية دينية - سياسية، لا تعبأ بالمعادلات السياسية القائمة ولا تلقي بالا لما تفرضه العلاقات الدولية والاقليمية المستندة إلى منطق القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، معسكر المقاومة يتبنى ستراتيجية (وحدة الساحات) في مقابل ما يسميه وحدة المعسكر المقابل، ويدعو إلى مراكمة النتائج تدريجيا والصبر على اشاعة ثقافة المقاومة اعلاميا وفكريا وتثوير الساحات الداخلية في الدول القائمة وتهديد المصالح الغربية خاصة الامريكية ومشاغلتها في عموم مساحات انتشارها لا سيما في العراق وسوريا والبحر الاحمر والخليج، لا تتحدث الفصائل الاسلامية عن الاشكاليات التي تحدث في ساحاتها الداخلية، حينما تتعارض افكارها وشعاراتها وايديولوجيتها مع الانظمة السياسية القائمة والتزاماتها القانونية وعلاقاتها الدولية، ولا تريد الخوض في اشكاليات خطيرة مثل من (يملك قرار الحرب والسلام)، في الدول القائمة، فتخرج عن الموقف الرسمي وتتصرّف بمفردها بناءً على تفسيرها للوقائع والأحداث دونما حساب لارتدادات هذا الموقف على مصالح الشعوب والدول القائمة، فالقضية عندها تتلخص في الشعار التاريخي (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) والمعركة في عرف وتفسير معسكر المقاومة هي المواجهة المستمرة. يمكن ملاحظة الجدل السياسي القائم حاليا في ايران والعراق ولبنان وداخل الساحة الفلسطينية وعموم المنطقة العربية للتأكد من اختلاف التصورات بين الرؤيتين، رؤية معسكر المقاومة وبين الرؤية الموازية التي ترى أن الصراع في المنطقة الذي امتد لاربعة اجيال لم يقترب من الحسم، وان ادارة الصراع ما تزال موزعة بين اتجاهات عديدة لا يحتكرها التيار الاسلامي وحده، وان ستراتيجية وحدة الساحات تواجه تحديات جدية، فالجمهورية الاسلامية الايرانية مثلا وجدت أن مصلحتها تقتضي عدم الانجرار وراء دعوات المشاركة في الحرب القائمة، فيما ضبط حزب الله في لبنان مشاركته ضمن قواعد اشتباك لا تصل إلى مستوى الحرب الشاملة. ورغم إصرار القوى الاسلامية على شعارها الاثير (من النهر إلى البحر) لكن المساحة تضيق عملياً على من ينادي بذلك بعدما غدا حل الدولتين مورد توافق دولياً، ومن دون هذا التوافق لن يكون للقضية الفلسطينية أفق سياسي معقول في ظروف الصراع القائمة، فالقوة المسلحة وحدها لن تحسم الصراع في ظل الواقع الدولي القائم على الدفاع المستميت عن (حق اسرائيل في الوجود !!)، ما أعاق هذا الحل حتى الآن هو التيارات الدينية المتطرفة واليمين الاسرائيلي الذي يرفع شعار من النهر إلى البحر معكوساً، فهذه التيارات ترفض وجود حق للشعب الفلسطيني على ارضه، وترى أن الحل يكمن باقتلاع الفلسطينيين من ارضهم وتهويدها بدعوى أنّها ارض اسرائيل التاريخية!!!!؟؟؟؟. وتنظر هذه القوى المتطرفة إلى قيام دولة فلسطينية ذات سيادة بأنّها خطر داهم، في مقابل هذه الرؤى المتشددة، كانت هناك رؤية ترى أن حل الدولتين لن ينهي الصراع لأسباب دينيّة وهوياتيّة رغم امكانية تحققه عملياً، بسبب الرفض الاسرائيلي والضعف العربي والانحياز الدولي الذي يمنع الضغط الفعّال لانجازه عمليا، وان الحل هو في قيام دولة علمانيّة يتعايش فيها اليهود والفلسطينيون على ارض فلسطين بحيث تتساوى فيها حقوق المواطنة والمشاركة في ادارة الدولة، وهذا هو الحل الوحيد برأي دعاته للخلاص من هذا الصراع المستعصي. غير أن هذه الرؤية لم تنضج ولن تنضج قريبا حتى يقتنع الصهاينة والفلسطينيون بهذا الخيار الذي يحاربه الدينيون والمتطرفون واليمينيون على الجانبين.
واع