نادي الكون

د. مظهر محمد صالح

03/06/2018

في مساءِ خريفي خلت فيه ارصفة  العاصمة الاميركية واشنطن من المارة  ،ممن يأخذون الحياة مأخذ الجد و يأسفون على وقتهم الضائع ولم يترك الغروب على تلك الارصفة من يداعبها  سوى القليل من الاوراق المتساقطة من تلك الاشجار الشاهقة ،وهي تطلق عبق الطبيعة،  وشخص واحد قادم من شرق المتوسط  أخذ مساره بهدوء سيراً على قدميه ولم يهتم  الى النسائم المتدفقة الباردة التي لامسته رويداً ثم تركته متجهة الى الارض لتعصف بالاوراق الهابطة وتلهو بها هنا وهناك .
ولكن و على الرغم من ذلك لم تمض الرياح قبل ان تهمس  في أذنيه  وهي تغادره قائلة: انك ايها الرجل الشرقي المتوجه الى( نادي الكون) نقول لك أن الدنيا لاتهمنا ونحن في خريف حياتنا ولا نحن نهم الدنيا بشيء ،امض حيثما تريد فانك ستبقى في محيط فضاء هذا الكون( الاحدب) كما يراه عالم الكون البرت انشتاين!.
استيقظت ذاكرتي من حلم اليقظة وقلت ما اكثر ما نسمع عن نهاية الكون منذ بدء الانفجار العظيم ونشوء الخليقة ولكن ها هي الدنيا باقية كما كانت ولاشيء يمكن ان يلقي به الخريف حتى النهاية!
كنت في مكان رسمت دلالاته المعمارية من جذور مدرسة (البوزار) في فن العمارة و التي سادت الفكر المعماري الفرنسي في القرن الثامن عشر قبل ان تنقل معالمها الى العاصمة واشنطن،يوم تأثرت الثورة الاميركية بالثورة الفرنسية.وكان التراث المعماري هو الشاهد الاول على تفاعل الثورتين.تركت رصيفي في شارع (ماسوسوتش) باتجاه المبنى2121 لأْتناول عشائي في ناد اجتماعي اسمه (نادي الكون) بني على طراز فن (البوزار) وذلك تلبية لدعوة مضيفي الشخصية المعمارية العالية الثقافة .كان ذلك المساء علامة فارقة في فهم الدور الذي اثرت فيه مدرسة( البوزار) المعمارية في رسم العمارة الكلاسيكية الاميركية.
فالكثير من مباني العاصمة واشنطن قد صممت على طراز (البوزار)المعماري الذي تستمد جذوره من تصميم العمارة وفنونها  في العصرالروماني القديم، حيث تقوم الابنية اوتشيد على عدد من الاعمدة العملاقة وتزين مقدماتها بالمنحوتات والتماثيل وبواقعية عالية، فمثلما هي عليه دار الاوبرا في باريس (دار اوبيرا غرنيه) تجد محطة قطارات نيويورك والعديد من الابنية الرسمية والدوائر الفيدرالية في الولايات المتحدة قد شيدت على طراز مدرسة( البوزار) الفرنسية.
تطلعت الى مبنى نادي الكون الذي بني في نهاية القرن التاسع عشرعلى طراز البوزار المعماري والذي شيده احد الاثرياء لنفسه قبل ان يشغله النادي نفسه في العام 1952 ،لأْجد في مقدمة المبنى شاخصا يحمل اسم (كوزمك اوالكون ). رفعت رأسي عالياً وانا اتطلع الى كبد السماء قبل ان تلفني بوابات ذلك النادي الذي لااعرف عنه شيئا حتى تلك اللحظة.وتذكرت في الحال ان تجمعات دقيقة تنفث غباراً مما يكثر في الغلاف الجوي ولكواكب باردة وتصدر منها اصوات مبهمة لايمكن فهمها طالما لانعرف اي فكرة عن نشوئها ،ولذلك فمن غير المستحيل ان يوجد نوع من الحياة فيها ،خلافاً للرأي القائل باستحالة وجود الحياة في غير الاجواء النارية!
دخلت نادي الكون وكانما اتقلب في دفء كوكب بارد غير ناري ،بعد ان زين رواقه بصور لعدد من الشخصيات الاميركية المنتمية الى هذا النادي ،لتجد من فورك انهم جميعا  قد حصلوا على جائزة نوبل او غيرها من الجوائز العلمية المرموقة في حقول معارفهم وعبر عقود زمنية مختلفة، فمن بين 32عالما حائزا على جائزة نوبل  وقع  نظري  وبالغريزة العلمية على  صورة عالم  الاقتصاد( لورنس كلاين) عضو نادي الكون والحاصل على تلك الجائزة في علم الاقتصاد في العام 1980، إذ يٌعد( لورنس كلاين) من طلائع علماء الاقتصاد ممن طوروا برامج الحاسبات بغية بناء نماذج للتنبؤ الاقتصادي و تحليل التقلبات والسياسات الاقتصادية وآثارها، وذلك منذ خمسينيات القرن الماضي.كما يضم نادي الكون من بين اعضائه في الغالب رؤوساء الولايات المتحدة ونوابهم واعضاء المحكمة العليا واساتذة الجامعات و العلماء وغيرهم من النخب المسؤولة عن بناء ونهضة الولايات المتحدة الاميركية وذلك منذ تأسيس النادي المذكور في العام 1878. انه بحق كوكب مصغر ولكن غير ناري في حيويته و من صنف الكواكب الباردة المفعمة بقوة المنطق وقدرة العقل  لكثرة اعضائه من العلماء و حملة الجوائز العلمية العالية!!
كان العشاء في نادي الكون بسيطاً وصحياً للغاية ولكن الذي ادهشني في الصحن الاول الذي جرى تقديمه لي هو ( الحساء البارد).... وهو امر لم نعتد عليه نحن شعوب حوض المتوسط! وتساءلت لماذا الحساء في هذه البرودة ونحن نحتاج الى الدفء؟ فتبسم عامل الخدمة.. ليذكرني وهو يتحدث في سره مشيراً بأني ضيف في مكان يعبر عن طبيعة الحياة والعيش في (الكوكب البارد) انه( نادي الكون).
وان عاداتك وتقاليدك التي عهدتها... ايها القادم من الشرق هي لصيقة(بالكوكب الساخن).هنا توقفت عن التفكير وعرفت ان توازن الكون بكواكبه يسير على منطق لايمكنني تغييره او اعادة تفسيره!!
من صفوة القول:فقد شكل نادي الكون وحساؤه البارد واحدة من رمزيات الحياة على ظهر كوكبنا، فعندما تعيش في الجزء البارد من الكوكب يبتدئ طعامك بطبق بارد كي يدفئ العقل وعندما تعتقد بأن الحياة لايستقيم العيش فيها الا في كوكب ملتهب  فأن طبق طعامنا يبتدئ بحساء ساخن كي تبرد اجسادنا.انه صراع كوني بين سكان الكواكب الباردة و سكان الكواكب الساخنة.... في عالم ستظل اداة  صراعه هي صحون الحساء!!

ترددات نوا

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group