لم يكن الاتصال نادراً، ولا وحيداً، لكنّه جاء في سياق أكثر صراحةً وصرامةً ربّما، إنه هاتف وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إلى رئيس الحكومة العراقية محمّد شيّاع السوداني، عقب منتصف ليل 22 يوليو/ تموز الجاري. الهاتف الذي أثار كثيراً من ردّات الفعل عراقياً، واعتُبر من عدّة جهات سياسية ومسلّحة تدخّلاً سافراً في الشؤون العراقية. نشر البيت الأبيض تفاصيل ذلك الاتصال الذي أزعج بغداد، تفاصيل تؤكّد أن واشنطن عازمة على ممارسة مزيد من الضغط على الحكومة العراقية من أجل حلّ المليشيات، عبر تعطيل ما يُعرَف بقانون الحشد الشعبي، إضافةً إلى مطالبتها بالكشف عن الجهات التي تقف وراء استهداف حقول الغاز ومعسكرات الجيش العراقي خلال الفترة الماضية، وكأنّ لدى واشنطن معرفةً دقيقةً بما يجري في دهاليز السلطة ببغداد. أقال رئيس الحكومة لجنةً من كبار ضبّاط وزارة الدفاع العراقية، كانت مكلّفةً كشف الجهات المسؤولة عن استهداف منظومة الرادارات العراقية في 23 يونيو/ حزيران الماضي، بعد أن تبيّن للسوداني أن اللجنة حاولت إخفاء الحقيقة من خلال اتهام "إسرائيل" بالوقوف وراء تلك العمليات. أدرك السوداني أن هناك محاولة َخداعٍ وتضليلٍ تمارسها اللجنة، فأمر بإحالة ضبّاطها إلى آمرية المحاربين القدماء، وتشكيل لجنة جديدة من ضبّاط الدفاع الجوي، كشفت أن الهجمات نُفّذت بواسطة طائرات مسيّرة من نوع "شاهد" الإيرانية، وأن عملية الاستهداف انطلقت من الأراضي العراقية، لكن البيان الحكومي الصادر بهذا الخصوص لم يشر إلى الجهة الفاعلة بالاسم، على الرغم من أن الحكومة ورئيسها يمتلكان على ما يبدو تفاصيل أوسع، وهي المعلومات التي وصلت أيضاً إلى واشنطن. أقال رئيس الحكومة لجنةً من وزارة الدفاع العراقية، حاولت إخفاء الحقيقة باتهام "إسرائيل" بالوقوف وراء هجمات بطائرات مسيّرة في العراق تتمدّد سطوة المليشيات الموالية لإيران داخل العراق، وتسعى من خلال هذا التمدّد إلى تشكيل نموذج يُحاكي سيطرة الحرس الثوري الإيراني على مفاصل الدولة كافّة. هذا أمر تستشعر بخطورته واشنطن، كما ترفضه جهات عراقية مختلفة، لا تقتصر على الجهات السُّنّية أو الكردية، بل تشمل أيضاً قوىً سياسيةً شيعيةً فاعلةً، ترى أن النموذج الإيراني بات قاب قوسين أو أدنى من نهايته، ولا يُعقَل إعادة تكريسه في بلد كالعراق، المختلف كلّياً عن إيران. في الوقت ذاته، لا تجد بغداد الرسمية حرجاً في الحديث عن الضغوط الأميركية لمعالجة ملفّ السلاح المنفلت، وهي التي سعى رئيس حكومتها، منذ عامين، إلى إبعاد العراق عن شبح الحرب، بتفويض من قوى شيعية وجدت نفسها في مواجهة محتملة مع "أخطبوط القوة" المتمثّل بحكومة اليمين المتطرّف في تل أبيب، التي هدّدت مراراً باستهداف مليشيات عراقية تتهمها بأنها تقف وراء الهجمات، قبل أن تحرمها واشنطن من ذلك، متعهّدةً في أكثر من مناسبة بممارسة الضغط على بغداد لإنهاء هذا الملفّ. تبرز هنا سطوة المليشيات مجدّداً؛ فعلى مدى الأيام الماضية، عادت نبرة التحدّي والتهديد التي اختفت منذ نحو عام، وبدأت حسابات "المجهولين" المنسوبين إلى تلك المليشيات في تهديد الوجود الأميركي في العراق، عقب الاتصال الهاتفي بين روبيو والسوداني. فقد كانت تلك القيادات الموالية للمليشيات تطمح إلى تمرير "قانون الحشد"، الذي يُحصِّن هذه الجماعات من أيّ تداعيات مستقبلية، كما تعتقد. تتمدّد المليشيات الموالية لإيران في العراق لتشكيل نموذج يُحاكي الحرس الثوري تريد أميركا العراق خالياً من النفوذ الإيراني "الخبيث"، على حدّ وصف بيان لوزارة الخارجية الأميركية عقب المكالمة. عبارة تحمل تهديداً واضحاً لتلك المليشيات العراقية، التي لا تُخفي ولاءها لولي الفقيه في إيران، على اعتبار أنها المعنيّة بذلك الوصف. لا يمكن قراءة تفاصيل المكالمة الهاتفية بين روبيو والسوداني بمعزل عن مجريات الواقع، والمتغيّرات الجارية في المنطقة، فهي تأتي في ظلّ سعي أميركي إسرائيلي محموم لتجريد المنطقة من أيّ سلاح خارج سيطرة الدولة. وهي الرسالة التي فهمها حزب العمّال الكردستاني (التركي)، وقرّر زعيمه عبد الله أوجلان إلقاء السلاح والانخراط في العمل السياسي، بعد أكثر من نصف قرن من القتال المسلّح. كما وصلت الرسالة بطرق شتى إلى حزب الله في لبنان، حيث تجري مفاوضات "شاقّة" لتحييد سلاح الحزب، تمهيداً لسحبه. والوضع نفسه ينطبق على العراق، الذي تبدو مهمّته أسهل من غيره، في ظلّ شعورٍ متنامٍ لدى مختلف أطراف السلطة بأن هذا القرار "شرّ لا بدّ منه". تستعين بغداد بخبرات تفاوضية متفاوتة للتعامل مع المليشيات، وهي تدرك جيّداً أن بإمكانها تنفيذ عملية "إجبار" لسحب سلاح تلك الجماعات، لكنّها لا تريد حالياً أي صدام مباشر، خصوصاً في ظلّ هشاشة الوضع الأمني، بانتظار حكومة أكثر تمثيلاً وشرعية، قد تتمخّض منها انتخابات نوفمبر المقبل، لتنفيذ المهمة الأصعب. هل سينتظر الراعي الأميركي العملية السياسية في العراق، وحتى موعد الانتخابات؟... بتقدير كاتب هذه السطور. نعم، هو مجبر على الانتظار إذا شعر بأن ذلك ممكن من خلال حكومة أكثر قدرة وتمثيلاً. أمّا بخلاف ذلك، فإن إطلاق يد الكيان الإسرائيلي للعمل في العراق قد ينذر بتعقيدات للمشهد السياسي، ويدفعه نحو فوضى وعدم استقرار، على أمل أن تعقبها نهاية لسلاحٍ منفلت ظلّ يهدّد العراقيين (قبل غيرهم) طوال عقدَين.
المصدر/العربي الجديد