سائرون/ الصدر:استثمارٌ للفوز الانتخابي أم تفريطٌ به؟!

فارس كمال نظمي

19/06/2018

أُعلن قبل أيام في مؤتمر صحفي بين السيدين مقتدى الصدر وهادي العامري عن تشكيل تحالف بين "سائرون" و"الفتح" كنواة لكتلة نيابية كبرى قد تُكلّف لاحقاً بتشكيل الحكومة الجديدة. وهي خطوة كانت مفاجئة وصادمة ومخيبة للآمال لدى البعض (مدنيين وصدريين) ممن كان ينتظر من السيد الصدر موقفاً نهائياً رافضاً للطائفية السياسية تحت أي ظرف، فيما كانت خطوة متوقعة ومفهومة لدى البعض الآخر (أيضاً مدنيين وصدريين) ممن يرى في السياسة أداءً مرناً قابلاً لإعادة تشكيل المواقف تحت أي ظرف قاهر.

وبصرف النظر عن "الضغوط" الكبيرة التي تعرّض لها السيد الصدر (بحسب تسريبات إعلامية) من جهات إقليمية لكي يعيد النظر - ربما اضطرارياً أو تكتيكياً- في مفهومه عن التحالفات الممكنة، في لحظة عراقية واقعية مثخنة بالتأزم واحتمال الانفتاح على سيناريوهات دموية غير محدودة، خصوصاً بعد تفجير مدينة الصدر الماسأوي والإحراق المتعمد لمخازن صناديق الاقتراع لمنطقة الرصافة، فإن سؤالاً جوهرياً بات يطرح نفسه حتمياً، انطلاقاً من الفكرة السياسية التي تأسسَ وفقها تحالف "سائرون" هو: 

هل سيتجه هذا التحالف (صدريون وشيوعيون ومدنيون) إلى التفريط برأسماله السياسي والمعنوي الآني والمستقبلي الذي حصده مؤخراً، من خلال الانتخابات ولكونه امتداداً للحركة الاحتجاجية المتصاعدة منذ ثلاث سنوات، عبر قبوله بأن يُزج في تحالف برلماني وحكومي هش يخالف ما جاء في برنامجه المعلن عن ((مشروع وطني عابر للطائفية ومناهض لها... يعمل على إنشاء دولة مدنية تقوم على أساس المواطنة وتؤمّن العدالة الاجتماعية، دولة قوية بمؤسساتها، قادرة على اتخاذ قراراتها المستقلة، بما يعكس هيبتها، وسيادة البلاد الوطنية...))، أمْ ما يزال في الوقت متسع لمناورات سياسية قادمة تتيح لـ"سائرون" الاستفادة من الامتياز التاريخي الكبير المتاح له اليوم: أي امتياز الإعلان عن معارضة سياسية برلمانية تتبنى ستراتيجية التغيير والأمل، دون التورط في الاشتراك بتحالفات ما دون الوطنية، لا يمكن أن تخرج في النهاية عن إطار الفساد السياسي المقتات على التحاصص الإثنوسياسي؟!

هنا لا بد من التذكير أن التقارب المدني الصدري في ساحات الاحتجاج منذ نهاية 2015 قد حقق "هيمنة ثقافية" (أي بديل رؤيوي ناتج عن وعي جديد للمجتمع بذاته) أسهمت نسبياً في التهيئة الذهنية لتكوين إرادة/ كتلة مجتمعية مشتركة - خارج الايديولوجيا- بديلاً تدريجياً للعملية السياسية الحالية، سعياً لإنجاز عملية نقل السلطة سلمياً عبر الوسائل الانتخابية والاحتجاجية والثقافية، من البنية الغنائمية إلى البنية التشاركية التي ينتظر منها تعبيد الطريق نحو الدولة الوطنية بوصفها مدخلاً إلى الدولة المدنية القادمة. وكان واحداً من ثمار هذه الهيمنة الثقافية البازغة تشكيل تحالف انتخابي (سائرون) حقق المرتبة الانتخابية الأولى على نحو مفاجئ لكل المراقبين. 

لكن كل هذه المكتسبات ستغدو مرشحة للتفريط بها في حال انخراط هذا التحالف في عملية التقاسم المكوناتي للسلطة - حتى لو بصيغة تكنوقراط وهمية-، إذ تمثل هذه المكتسبات ذروة وعي سوسيوسياسي تراكمي، يعني التراجع عنه إيذاناً بإحباط واسع النطاق لجمهور ينتظر خلاصاً اجتماعياً وانتقالاً نفسياً إلى عصر جديد مهما كانت بداياته عسيرة. ومثل هذا الإحباط الجمعي سيمهد أسباباً جديدة وجدية للعدمية والتطرف والغلو واليأس السياسي العنفي.

ولذلك فإن ذهاب "سائرون" إلى خيار المعارضة السياسية الفاعلة - وهو خيار كان مطروحاً لدى قادة التحالف أنفسهم قبل إجراء الانتخابات- يشكل بديلاً سياسياً حصيفاً وواقعياً في لحظة صراعية مريرة بين قوى التغيير وقوى الفساد، فضلاً عن كونه يشكل تعزيزاً مستقبلياً لتلك الهيمنة الثقافية المتصاعدة التي حققها التقارب بين المدنيين والصدريين على صعيد الإصلاح السياسي المنتظر.

في ضوء الضغوط الإقليمية الشديدة الهادفة إلى إبقاء العراق في نفق الجماعات العصبوية المتقاسمة لجثة الدولة.

وفي ضوء إصرار بعض النخب السياسية على إعلاء جرحهم النرجسي السلطوي فوق جراح الناس والوطن عبر مساعيهم لتقويض أسس المؤسسات "الديمقراطية" الهشة أصلاً واستخدام ستراتيجية الأرض المحروقة -دستورياً وأمنياً وانتخابياً- لقطع الطريق على أي انزياح وطنياتي لا طائفي - مهما كان محدوداً- أنتجته الانتخابات الأخيرة،...

وفي ضوء أن أي تحالفات متناقضة جوهرياً في تكوينها الاجتماعي وبرنامجها السياسي - كالتحالف الجديد المعلن بين سائرون والفتح- هي في حقيقتها وقتية وتفتقر لكل أسباب الديمومة الواقعية، ولن تستطيع إدامة نفسها إلا بتنازلات مؤلمة من الطرف الباحث عن التغيير حصراً،...

في ضوء كل ذلك، فإن السيد مقتدى وسائرون، مدعوون إلى النأي عن حفلة "التهام السلطة للحمها وللحم المجتمع"، بأن يظلوا "سائرين" في درب الاحتجاجات السلمية المتنوعة الأساليب عبر بناء وتطوير معارضة سياسية (برلمانية- شعبية) فاعلة تصنع الأمل بالتغيير بوسائل العمل السياسي والثقافي، وقابلة للتوسع بانضمام قوى سياسية واجتماعية لها لاحقاً، لا أن يُستدرجوا رغبياً إلى الإسهام في تشكيل حكومة ناقصة الشرعية إلى حد كبير، تعيد إنتاج الفساد والتطرف وهويات ما دون المواطنة، فضلاً عن العدمية والانكسار والاكتئاب السياسي في المجتمع.

وفي كل الأحوال، فإن عدم نشوء معارضة برلمانية هذه المرة -كما هو الحال منذ عقد ونصف- يعني خسران فرصة ثمينة علينا انتظار تبلورها من جديد لسنوات أخرى، ذلك أن وجود معارضة سياسية -خارج التحاصص الحكومي- سيؤدي تدريجياً إلى إنضاج بديل سياسي جديد (حكومة ظل إصلاحية) غير ملوث بالمال السياسي المنهوب من الريع النفطي المستباح حالياً لشبكات الزبائنية المطبقة على عنق الدولة، بل تكون موارده مستمدة من وسائل مشروعة (التبرعات والنشاط الاقتصادي القانوني). وهذا سيسهم في إعطاء معنى أخلاقي - لم يعد موجوداً اليوم- للعمل السياسي من جديد، بما يفتت حالة الخيبة والشعور بالعجز والاغتراب السياسي الواسع الحالي للمجتمع. 

يضاف إلى ذلك أن هذا البديل السياسي الذي تنتجه المعارضة، سيستمد موارده من القبول المجتمعي والشرعية العميقة المُدركة في أذهان الناس، ويهيء الأوضاع لتغيير سلمي إيجابي تدريجي على المدى المتوسط، دون المرور باحتمال الهزات الراديكالية المتوقعة من جراء التهرؤ الدولتي المتواصل والفشل الحكومي المزمن في خلق مأسسة سياسية ديناميكية تضمن الاستقرار السياسي بدرجة تحقق الحد الأدنى من الهوية الجامعة والسلم الأهلي وعدالة توزيع الثروة، بوصفها شروطاً ضرورية لعملية بناء الدولة/ الأمة.

المصدر// جريدة المدى

ترددات نوا

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group