كتب "أنطونيو غرامشي" في مذكرات السجن: «إن كل أزمة تقوم بدقة على حقيقة أساسية مفادها أن القديم يحتضر، والجديد تستعصي عليه الولادة. وضمن هذا الانقطاع بين القديم والجديد، تظهر كمية هائلة من الاعتلالات».
هذا المنظور يرى في الأزمة - الفكرية خاصةً- مفهوماً جدلياً يتضمن الإيجاب والسلب، أي حالة إشكالية تستدعي تفاعلات، يمكن أن تولّد حلولاً منتجة إذا ما أُحسن إدارتها. ويبدو أن أقدم الأحزاب العراقية الحية وأكبر تنظيماتها اليسارية (الحزب الشيوعي العراقي) بات اليوم يعايش أزمة من هذا النوع تخص تحديد هويته الايديولوجية أو إعادة تعريفها، ما عاد يمكن إنكارها أو تجنب الخوض فيها مثلما حدث في مراحل سابقة، إذ تتلخص في الإشكالية الماثلة: «هل يمكن إعادة إنتاج مفهوم الشيوعية بكيفيات/ ممارسات جديدة دون المساس بجوهرها القيمي الغائي؟».
وقبل تقديم أي تحليل لديناميات هذه الأزمة التي تعدّ ظاهرة مألوفة في أي حزب عقائدي تتفاعل فيه أجيال متعددة، تجدر الإشارة أولاً إلى تمظهرها الحالي الحاد، فقد تعرّضت قيادة الحزب الشيوعي قبل أيام إلى حملة مضادة شديدة اللهجة من بعض قواعد الحزب، ومن بعض أصدقائه، ومن مدنيين ويساريين بتوجهات مختلفة، في داخل العراق وخارجه، بسبب قرار السيد مقتدى الصدر في 13 حزيران 2018م بإعلان التحالف المفاجئ بين كتلة "سائرون" التي يتبناها سياسياً (والشيوعيون جزء منها مع الصدريين وأحزاب مدنية مدنية أخرى) وبين كتلة "الفتح" الموصوفة بالطائفية السياسية والتبعية لقوى إقليمية.
وكان الاتهام الموجه في هذه الحملة إلى قيادة الحزب يتركز إجمالاً حول "ترددها" أو "تخاذلها" أو "لا مبدأيتها" لأنها لم تقرر الانسحاب الفوري من كتلة "سائرون" بعد إعلان هذا التحالف. وفي حالات أخرى اتسع الاتهام ليشمل أيضاً قرارها السابق بالتحالف مع الصدريين، بما يعنيه - في منظور المناوئين له- من "تفريط" بالمبادئ العقائدية حول "استحالة" التنسيق السياسي بين علمانيين ودينيين، وحتى بالمبادئ الوطنية المتعلقة بالتصدي للطائفية والفساد الإسلامويينِ. وفي المقابل، بادر بعض الحزبيين من أنصار القيادة إلى توجيه الاتهامات إلى المنتقدين بسبب "خرقهم" للانضباط الحزبي وتعريض التنظيم إلى "خطر" التفكك و"تشويه" السمعة. وبين هذا وذاك ظلت نخب أخرى -ليست مسموعة الصوت بما يكفي- من الطرفين تمارس النقد الهادئ وتقديم المناشدات الإقناعية دون الولوج في عبارات التخوين والتسقيط السياسي.
تمثل هذه المكاشفات المتضادة نوعاً من شفافية غير مسبوقة في تاريخ الحزب الشيوعي وعموم الأحزاب العراقية المؤطرة أيديولوجياً بقوة. كما إنها تعبّر عن تراجع مهم في نزعة "القداسة" العقائدية، ما يقدّم مؤشراً دالاً على تنامي الصحة النفسية السياسية في صفوف هذا الحزب واصدقائه بغض النظر عن فحوى الأزمة وتداعياتها ومآلاتها.
وبعيداً عن التقييمات المعيارية (خطأ- صواب) أو الأخلاقية (خيانة- أمانة)، تسعى هذه السطور لتقديم تحليل ذي رؤية سيكوسياسية للأزمة الحالية ضمن بنية الحزب نفسه الموزعة بين قيادته وقواعده وأصدقائه، دون الخوض في مواقف يساريين ومدنيين آخرين مارسوا موقفاً ناقداً للحزب أيضاً إذ يتطلب ذلك تحليلاً منفصلاً. كما يجدر التنويه بأن ما يُقصد بالقيادة هو العقل الجماعي النهائي الذي يضع السياسات ويتخذ القرارات دون إغفال وجود خلافات وتباينات وحتى صراعات فكرية وشخصية بين أعضاء القيادة أنفسهم.
إن هذه المقاربة المختصة بالأزمة الحالية لا تعني إغفالاً لواقعة أن الحزب الشيوعي العراقي وبقية الحركات اليسارية في العراق ما برحوا يعانون من اعتلالات أخرى مزمنة -ذاتية وموضوعية- متنوعة في الايديولوجيا والتنظيم، لكن المقام لا يختص بمناقشتها هنا.
الشيوعية: سردية صنمية أم فكر اجتماعي متطور؟!
بسبب الذاكرة السياسية الرومانتيكية لأعداد مهمة من أعضاء الحزب الشيوعي ومناصريه، بما تحتويه من سرديات تاريخية عن عوالم بلشفية مُنتظرة، فإن العقبة الرئيسة التي تواجه قيادته حالياً هي في أنها باتت تدرك ميدانياً أن التعويل على هذا الرصيد النوستاليجي المؤدلج لن يفلح في تحقيق استثمارات سياسية ناجعة تحقق لها مكانة وفاعلية وسط بيئة سياسية ملوثة بأعلى درجات الفساد السياسي والأنوميا المجتمعية والرثاثة الدولتية والتفكير الأساطيري والتدخلات الدولية والإقليمية الهدمية، فضلاً عما يحيط بالشيوعيين من خطر الاستهداف والتصفية وسط مناخ ديني متطرف يسهل فيه التكفير وهدر الدماء بمسميات فقهية "مقدسة".
إلا أن هذا الإدراك المستحدث لا يزال في طور التكوين التدريجي غير المكتمل، بعد عقود مارس فيها الحزب حشر الماركسية في نصوص مدرسية تتسم بالتبسيط اللفظي بدل التأصيل التنظيري، متأثراً كغيره بالتنميط السوفييتي للماركسية، دون أن يلغي ذلك تاريخاً رسالياً فريداً من سيكولوجيا الأمل والإيثار والزهد والنخبوية التي انفرد بها الشيوعيون في العراق، السياسيون منهم والاجتماعيون، طوال أكثر من 80 عاماً.
وقد أخذ هذا الإدراك المتنامي يتمايز بدرجات مختلفة من القبول أو الرفض لدى أعضاء القيادة بحسب خلفياتهم العقائدية والنفسية؛ فليس معلوماً بعد مدى الانتظام في فاعليته ليحقق تطوراً حقيقياً في الوظيفة التأثيرية للحزب في البيئة السياسية العراقية خلال المراحل القادمة، خصوصاً أن هذا الإدراك ما يزال يعبّر عن طروحاته بصيغة خطاب متردد لم تستقر بنيته الفكرية بعد، فقد شرعت القيادة - تحديداً في السنوات الثلاث الأخيرة بعد اندلاع موجة الاحتجاجات أواسط 2015 - باتخاذ مسارات عملية تكيفية متدرجة وسط بيئة محافظة أدمنت على إنتاج الخضوع بمسميات لاهوتية، ساعية لأن تجعل من الشيوعية فكرة يساروية اجتماعية مطلبية قابلة للتحقق بكيفيات مرنة متنوعة السيناريوهات في المدى البعيد، بدل كونها أيديولوجيا ذات حتمية مُتَخيلة تنتظر ساعة الانقضاض الثوري على السلطة "القيصرية"، فاتخذت قراراتها بالتقارب مع حركة إسلامية ذات قاعدة اجتماعية محرومة واسعة (التيار الصدري) في ساحات الاحتجاج، ثم التحالف معها فيما بعد في قائمة انتخابية واحدة، سعياً لإعادة الصلة بتلك القاعدة التي انفصلت عن الحزب الشيوعي بفعل حقبتي الاستبداد البعثي والإسلام السياسي، بما يمكن أن يسهم في منحها وعياً سياسياً متقدماً عبر "الفعل الاتصالي" - بتعبير هابرماس- وجعلها جزءاً من "هيمنة ثقافية" -بتعبير غرامشي- جديدة للانتقال بالبلاد من بنية الإثنيات السياسية المتصارعة ما دون الوطنية إلى بنية المواطنة والوطنياتية.
هذه النزعة التكيفية في تاريخ الحزب الشيوعي ليست جديدة، بل مزمنة، تستمد أسبابها من مصدرين ذاتي وموضوعي. فالطابع العقلاني التفاؤلي العام للفكر الماركسي - دون الخوض في أنماط استيعابه داخل الحزب- ظل يوفر دافعاً ذاتياً للتفتيش عن وسائل للبقاء تتضمن إعادة الهيكلة التنظيمية والايديولوجية وما يتبعها من قرارات سياسية مصيرية، ما دام الوصول إلى الغايات "الأخلاقية" لن يمر بخط سكوني مستقيم بل بتعرجات اجتهادية تعمل ضمن مبدأ نقض النقيض.
أما المصدر الموضوعي فيتمثل ببقاء الحزب طوال تاريخه (تأسس 1934) وحتى اليوم، في موقف المعارضة لكل الأنظمة الحاكمة التي عايشها، ما عزز لديه ميكانزمات المواءمة السياسية لحفظ النوع بتأثير العوامل الظرفية القاسية من جهة؛ فضلاً عن قوة القيم العدالوية في المجتمع العراقي – دينياً وطبقياً- من جهة أخرى، والتي ظلّت تمثل حاضنة نسبية لأفكاره - حتى في المدن الدينية- على الرغم من كل أشكال القمع التصفوي المبرمج الذي تعرضت له بنيته المادية بما فيها الجسدية.
هذا المسار التجديدي النسبي منذ 2015م كان يعني بالضرورة انتقالاً تدريجياً لمفهوم الشيوعية من كونها عقيدة نصيّة تستند حصراً إلى فلسفة مادية تاريخية حتموية تؤمن بالصراع الطبقي والتطور الجدلي لعلاقات الإنتاج وفقاً لمبدأ صراع الأضداد الذي يحكم تطور قوى الإنتاج وصولاً إلى تحقيق المجتمع الشيوعي حسب مبدأ "من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته"، إلى كونها فلسفة ممارسة عملية (براكسيس) Praxis مرنة - دون إلغاء جذرها المادي التاريخي- تتعامل مع وسائل السياسة والاقتصاد والثقافة بوصفها أدوات علمية احتمالية للتغيير، وليست معتقدية جازمة، يمكن أن تحقق تدريجياً نسقاً اشتراكياً للوجود الاجتماعي تتوفر فيه معايير نسبية -لا مطلقة- للعدالة والحرية والديمقراطية والكرامة، دون الحديث عن تصورات نهائية لعالم شيوعي بعينه ينتظرنا حتماً.
وليس في هذا الانتقال ما يتناقض فلسفياً مع الماركسية، بل إنه يتطابق مع أطروحة "كارل ماركس" الثانية حول فيورباخ: «إن معرفة ما إذا كان التفكير الإنساني له حقيقة واقعية ليست مطلقاً قضية نظرية، إنما هي قضية عملية؛ ففي النشاط العملي ينبغي على الإنسان أن يثبت الحقيقة، أي واقعية وقوة تفكيره ووجود هذا التفكير في عالمنا هذا. والنقاش حول واقعية أو عدم واقعية التفكير المنعزل عن النشاط العملي إنما هو قضية كلامية بحتة». وكل ذلك يشير بالضرورة أن الحزب الشيوعي -فكراً وتنظيماً- بات اليوم في مرحلة تغيير بنيوي، سوف تستدعي بالضرورة تأزمات فكرية وتنظيمية مستمرة بين فريقٍ يتبنى الشيوعية بوصفها توجهاً أيقونياً/ يوتوبياً، وفريق يتبناها بوصفها توجهاً عِلموياً قائماً على فلسفة الممارسة العملية.
كنت قد كتبت في مرة سابقة أن مدى قدرة الحزب الشيوعي على الاحتفاظ بفاعليته السياسية ترتبط بمدى قدرته - أو عجزه- عن تغليب الطابع اليساروي الاجتماعي للشيوعية في بنائه التنظيمي ووظيفته الفكرية التغييرية للمجتمع، وسط ظروف عراقية وإقليمية عسيرة. وتساءلتُ حينها ومعي كثيرون: «هل ما يزال الحزب مالكاً لرأسمال اجتماعي كافٍ يوفر له دوراً مؤثراً في الحياة السياسية؟ أم تحوّلَ إلى مجرد سردية أخلاقوية توفر إشباعاً نفسياً آنياً لأعضائه ومؤيديه؟!». وأوضحتُ أن الإجابة عن هذا السؤال المركب ليست يسيرة ولا جاهزة ولا جازمة، بل إن الخوض فيها هو نوع من نشاط فكري جدلي متعدد المستويات، يمكن أن يطلق حواراً غنياً وواعداً لتنشيط مجمل الحراك اليساري في العراق.
وهذا ما يتضح اليوم بالفعل، ولكن في أجواء متشنجة تعلو فيها عبارات الانتقاص والتخوين والتأثيم، انطلاقاً من مرجعيات لفظية مغلقة دون محاججات نظرية منفتحة، بعكس ما يفترض أن تتسم به التقاليد الماركسية من تنقيب متريث ومتعمق في جدليات التطور الاجتماعي ومساراته.
المصدر// جريدة المدى