الشيعة السكانية وعرقنة لصراع السياسي..!

فارس كمال نظمي

19/07/2018

مشهدٌ لاتخطئه العين اليوم: جمهور شبابي محتج ينتمي للشيعة السكانية المحرومة والمحبَطة في مدن البؤس والألم، لا يرفع إلا أعلاماً عراقية ولافتات تطالب بالخبز والخدمات وفرص العمل، يفلحُ خلال أيام قليلة - دون قصد- في توحيد أغلب جماعات الشيعة السياسية ضده، الدولتية منها واللادولتية، ممن يمسكون بمفاصل السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية.
هذا التوحد التضامني بين حمائم السلطة وصقورها في عش واحد، بات يتمظهر لديهم بصيغ قمعية منظمة وقصدية في تنوعها: عنف مفرط، واعتقالات، وتعذيب، وقتلى برصاص حي، وقطع خدمات الانترنت والتواصل الاجتماعي. يضاف إلى ذلك خطابهم الإعلامي لشيطنة الاحتجاج بكونه مخترقاً بـ"مندسين"، وإنكارهم لحقيقة أن بعض ممارسات العنف التي صاحبت هذه الاحتجاجات السلمية في عمومها، تعدّ أعراضاً جانبية محتملة في مجتمع مأزوم ومستلب، ولا تنفي جوهر المعضلة المتمثل بالعجز الحكومي والدولتي عن تحقيق العتبة الدنيا من الخدمات والموارد الملبية للحاجات الأساسية للناس المطالبين بحقوقهم وكرامتهم.
وبين هذا وذاك، تبدو الشيعة اللاهوتية (الدينية) مترددة أو غير قادرة بعد على حسم موقفها من هذه المواجهة "الحتمية" بين الشيعة السياسية والشيعة السكانية في بلد مزقته الأسلمة الرثة والتدين الزائف والفساد المُمأسس والمُقونن.
إذن، أهو الشرخ/ الاقتتال الشيعي- الشيعي الذي حذر منه مفكرون وباحثون عديدون خلال السنوات الماضية، طبقاً لمستوى التحليل الماكروي (الفوقي)؟ أم هو أفول الهوية الشيعية السكونية بوظيفتها الإثنية المنغلقة بعد 2003، ليبزغ محلها خيار الهوية الشيعية الديناميكية بوصفها وعاءً طبقياً وطنياً يستوعب صراعات الموارد المنهوبة والمظالم الاجتماعية المُدركة، طبقاً لمستوى التحليل الميكروي (المجهري)؟ وهو بزوغ سيستدعي بالضرورة صدى مماثلاً في الهوية السنّية الديموغرافية المتأرجحة بين الاحتماء بـسردية الطائفة أو اللوذ بذاكرة الوطن.
ما يحدث اليوم أنموذج نظري فريد يستدعي التوقف البحثي العميق، لكيفية تحوّل الفاعل الديني السياسي في الطائفة الممسكة بالسلطة، إلى أداة تقمع الفاعل الاجتماعي السكاني فيها بسبب مطالب خدمية ومعيشية لا سياسية جذرية، بعد انقضاء خمسة عشر عاماً يُفترض أنها "نجحت" في تسييس الهوية وحجزها في إطار عصبوي داخل الطائفة.
ويحدث هذا التحول القمعي حتى دون أي غطاء ايديولوجي تبريري بالحد الأدنى، سوى تفعيل نظرية المؤامرة بعبارات رتيبة مكرورة عن "عنفية" المحتجين أو - في أحسن الأحوال- عن عدم قدرتهم على تطهير أنفسهم من "مندسين" غامضين يسعون إلى النيل من "هيبة" الدولة و"إسقاط" العملية السياسية "الوحيدة" الممكنة.
هذا الافتقار إلى غطاء ايديولوجي متين لتبرير القمع، يعزى إلى التآكل المتسارع في الشرعية الوظيفية للسلطة نتيجة سياساتها الهوياتية والزبائنية بالاستئثار بالريع النفطي المنهوب على حساب الأكثرية المحرومة من جانب, وإلى فقدانها لشرعيتها المُدركة في أذهان الناس بسبب خرقها التام لعقدها الاجتماعي الضمني والعلني مع المجتمع من جانب آخر.
وأمام تراجع كلا هاتين الشرعيتين، وفي ضوء انغلاق السلطة البنيوي، وعجزها الوظيفي على تحقيق إصلاحات سياسية وخدماتية حقيقية، واستعصائها الذهني على إدراك أنماط التفكير الاحتجاجي للمجتمع الشيعي المحلي، ولجوئها إلى القسوة والإنكار والتخوين والاستئساد، باتت تنمو شرعية مدنية أخرى مستقبلية في أذهان المحرومين، تتوزع ملامحها بعيداً عن التمثلات الطائفية المُتَخيّلة، قريباً من المقايسات العدالوية الواقعية، في إطار "مظلومية" مضاعفة، على نحو سيزداد تحاملاً وراديكالية وشغفاً بالعقاب كلما طال أمد الانقطاع الحالي في التواصل الدولتي والنفسي بين الطرفين.
الموجة الاحتجاجية الرابعة الحالية، بصرف النظر عن مآلاتها الحراكية الآنية، ومن خلال تفاعلها الجدلي مع الموجات الاحتجاجية التي سبقتها، وتمتعها بتعاطف شعبي مهم في عموم العراق، فإن أبرز مخرجاتها القادمة تتمثل في أنها أسهمت/ ستسهمُ جوهرياً في عرقنة السياسة في هذه البلاد بديلاً عن تطييفها، وفي أنها تمثل لحظة نوعية في التاريخ السوسيوسياسي للشيعة السكانية، إذ يشرعون بإعادة إنتاج الصراع السياسي في العراق وفقاً لجدل التباينات الطبقية والثقافية المفتوحة، خارج التماثلات الهوياتية الثيولوجية المغلقة.

المصدر// صفحة الفيسبوك الخاصة بالكاتب

ترددات نوا

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group