الماركنتالية المالية: إشكالية الاضداد الاقتصادية الدولية

د. مظهر محمد صالح

08/11/2018

جائني سؤال من برلماني عراقي معروف على النحو الاتي:

قرأت مقالتك الرائعة (الحرب الباردة الجديدة : حرب تنويع العملة الصينية) وكنت قبلها افكر بأشكالية تبني الصين او من يشاركها من الدول بخصوص العملة البديلة للدولار وكان يقف امامي تصور لاأفهمه وهو كيف يمكن لتلك الدول أن تعمل بالضد من الدولار وتضعفه او تسقطه كعملة صعبة وإن اغلب تلك الدول تمسك بسندات أمريكية وفائض بالدولار (كما ذكر جنابك) فأن للصين 3.1 تريليون احتياطيات اجنيبة رسمية ؟ هذه المسألة لم افهمها ؟ أي كيف يمكن لتلك الدول ضرب الدولار وهو يمثل ركن رئيس لاقتصادهم باعتبار مالديها من خزين دولار وسندات والى اخره من امور لااعرفها ؟ والشيء الآخر هو أنه من المعلوم ان امريكا تطبع (تصدر) الدولار دون تغطيته بالذهب فما هو المانع من ان تصدر امريكا عملتها بأستمرار وتعالج عجزها ؟ ارجو لطفك توضيح هذين الامرين متى ما اتُيحت الفرصة.

الجواب :

هنالك نفوذ مالي امريكي موروث منذ ان انتصرت الولايات المتحدة بالحرب العالمية الثانية ودورها بتأسيس نظام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في العام 1945 كمؤسسات مالية دولية متعددة الاطراف او ماسمي باتفاقية بريتون و ودز . اذ تم ربط النظام النقدي الدولي بالدولار الامريكي وجعله عملة احتياطية دولية (معززة بالذهب) لسد احتياجات التبادل التجاري العالمي واستقرار انظمة الصرف وثباتها جميعاً بعملة الدولار كعملة دولية قوية مستقرة مربوطة بالذهب وعلى اساس ان اونس الذهب الواحد يساوي 36 دولار أمريكي (والاونس يقارب 6 مثاقيل من عيار 24 بالمفاهيم السائدة في سوق الذهب العراقية). في وقت كان الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة يفوق نصف اجمالي الناتج العالمي يوم أن إنبثق نظام صندوق النقد الدولي . وبسبب عدم كفاية الذهب في مكونات الاحتياطي الامريكي لمبادلته بالدولار عند الحاجة مع الامم، اتخذت امريكا قراراً في منتصف آب 1971 بايقاف تحويل الدولار الى الذهب وأبدت في الوقت نفسه استعدادها بمبادلة الدولار (الذي هو بحوزة البلدان) بالسلع والخدمات الامريكية أو السندات الحكومية الامريكية او أية حقوق مسموح بحيازتها او يسمح بتملكها داخل الولايات المتحدة نفسها. وهكذا ظل الدولار حتى الساعة يهيمن على أكثر من 80% من عمليات التبادل التجاري العالمي والمبادلات الاقتصادية الدولية ويهيمن كذلك بنحو يزيد على 60% من القروض المصرفية العالمية وأكثر من ثلث الإحتياطي الرسمي للدول. وعلى الرغم من إن قيمة الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة ألاجمالي لاتتعدى في الوقت الحاضر 26% من الدخل أو الناتج العالمي، الا ان الولايات المتحدة إستمرت محافظة على مقاليد سيطرتها على نظام المدفوعات المالي الدولي وبفاعلية عالية مازال العالم يذعن اليها.

وبهذا اتاح النفوذ المالي للولايات المتحدة على العالم إمتصاص ارباح وفوائض من اقتصادات الدول الاخرى وبشكل فاعل. إذ أصبحت تدفقات العملة الامريكية وتحويلها المستمر الى استثمارات داخل امريكا يوازي نفوذها التكنولوجي والعسكري في آن واحد. وكما حل دور الطاقة والامساك بالسياسة النفطية الدولية كقوة نفوذ مضاعفة ابتدأت فاعليتها بشكل اكبر منذ تعطيل نظام صندوق النقد الدولي وإشاعة سياسات التاميم في سبعينيات القرن الماضي وتحرير أسعار النفط لتأخذ مستويات عالية تمكن من تزايد الطلب على الدولار وتغطية المدفوعات النفطية وقتها. وهنا عُد نظام المدفوعات النفطية وتحرير معاملاتها ذات العلاقة وسيلة مغرية بأستمرار في الطلب العالمي على العملة الامريكية لكون سوق النفط الدولية تتعاطى التعامل بالدولار اصلاً ذلك منذ نشأتها (قبيل الحرب العالمية الاولى). في حين ولدّ النفوذ النفطي/ المالي الامريكي الجديد تأثيراً مباشراً آخر على النظام المصرفي العالمي عن طريق استخدام وتدوير الفوائض من عائدات النفط لتحقيق تراكمات مالية أضافية اطلق عليها بظاهرة البترودولار ولاسيما في العقود الاربعة الماضية لتُغرق العالم بملامح أزمة سميت بازمة المديونية الدولية. حيث تم أقراض فائض البترودولار ومنحه الى مايسمى ببلدان العجز المالي وظهور أزمة الديون العالمية التي إشتعلت مُشكلاتها منذ آواخر سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم رافقها وقت ذاك ارتفاعات عالية في معدلات الفائدة المصرفية عبر ظاهرة الركود التضخمي الدولية Stagflation ولاسيما في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن الماضي. في حين ساهم النظام المصرفي الامريكي في اوروبا أو مايسمى بسوق اليورودولار بتدوير فوائض النفط وأقراضها بكونها مصارف ومؤسسات مالية تتولى منح قروض مستمرة الى بلدان العالم الثالث كافة وغيرها والتي تطورت كنظام مصرفي (دولاري أوروبي) مع قوة تراكم فوائض البترودولار لديها. كما كبلت الولايات المتحدة شركائها التجاريين ممن يتمتعون بفائض في الحساب التجاري معها بمغريات الاستثمار بالسندات الحكومية الامريكية. وهنا تحول العجز التجاري الامريكي سواء مع اليابان أو بلدان الفائض النفطي ومن ثم الصين الى فائض في الحساب الرأسمالي لميزان مدفوعات الولايات المتحدة. وكذلك تحول الربح التجاري لبلدان الفائض التجاري في جانب كبير منه الى استثمارات مالية في سوق السندات الامريكية التي ولدت الدولار نفسه في دورة اقتصادية أمريكية تبدأ بعجز تجاري وتنتهي بفائض رأسمالي في ميزان المدفوعات والتي قد تستمر ولاتنتهي إلا بنهاية النظام النقدي الدولي القائم.

لقد أغُرق العالم حقاً بنظام نقدي أحادي تقريباً فرضته شروط المنتصر في الحرب العالمية الثانية وعززته القطبية الاحادية منذ آواخر القرن العشرين . فالولايات المتحدة تُصدر اليوم عملتها بالغالب لقاء قيام العالم باقراض الحكومة الامريكية بفوائضهم المالية المتحققة مع الولايات المتحدة عن طريق مبادلتها بسندات الخزانة الامريكية وهو اقتراض حكومي امريكي للدولار المصدر نقداً، أي مبادلة الدولار الفائض لدى الدول الاخرى بالسندات الامريكية لسد عجز الموازنة الامريكية. وبهذا أمست الولايات المتحدة مصُدرة للعملة ومستوردة للسلع والخدمات ولاسيما السلع كثيفة رأس المال لتقوم هي بالمقابل تصدير سلع وخدمات كثيفة العمل كي تضمن مستوى عالي من التشغيل ومحاربة البطالة والتي يطلق على هذه الظاهرة الامريكية الغريبة (بمفارقة ليونتيف Leontief Paradox ).

إذ تزيد نسبة الديون الامريكية الى الناتج المحلي الاجمالي حالياً على 105 % بعد ان ظلت نسبتها من العام 1940 وحتى العام2017 بمتوسط مقداره 61,7 % . اذ يتولى النظام المصرفي الامريكي والمؤسسات المالية بشكل خاص والعالم الخارجي بشكل عام شراء تلك السندات بالدولار لقاء الفائدة المضمونة الدفع موزعة بين30% للمصارف والمؤسسات المالية الامريكية 70% لبلدان العالم المختلفة.

وأخيراُ، لقد ولُد نظام ماركنتالي أو تجاري جديد نجم عن الرأسمالية المالية كظاهرة امبريالية مهيمنة عالمياً يطلق عليها (بالماركنتالية المالية) وهي عكس (الماركنتالية التجارية) القديمة التي كانت تتطلع اليها الدول لتحقيق فائض في الميزان التجاري من جراء تفّوق صادراتها من السلع والخدمات على إستيراداتها. وتقوم الماركنتالية المالية الامريكية على تحقيق فائض في حساب راس المال في مكونات ميزان المدفوعات الامريكي يعادل او يقارب العجز في الحساب الجاري من السلع والخدمات لميزان المدفوعات الامريكي نفسه. ثم تحقق امريكا مدخراتها الفاعلة والمرغوبة لاغراض الاستثمار من تحويل فوائض العالم اليها لتستحيلها اليوم الى استثمارات محلية وبشكل لايتعارض مع أستمرار تمتع الامة الامريكية برفاهية استهلاكية عالية وضمن ظاهرة سميت ايضاً بالعجز المزدوج أي العجز في الموازنة العامة والحساب الجاري لميزان المدفوعات dual deficit وهي وظيفة اختلالية نطاقها تحقيق منافع احتكارية حقيقية من نظام مالي امبريالي شديد الهيمنة يقوم على الاصدار النقدي لعملة إحتياطية دولية.

ختاماً: انه صراع تاريخي داخل مكونات ميزان المدفوعات الامريكي يجسد دوام انتصار الماركنتالية المالية التي يمثلها الاقتصاد الرمزي لسوق راس المال الامريكي token economy على الماركنتالية التجارية للأمم الاخرى ذات الفائض التجاري والمُولد من دالة إنتاج في إقتصاد حقيقي عالمي real economy ويأتي في خدمة الاقتصاد الرمزي للولايات المتحدة الامريكية.... إنها التبعية الماركنتالية (التجارية) العالمية للماركنتالية (المالية) التي تجسد هيمنة القطب الواحد.

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group