هل الذكاء الاصطناعي جدير بالثقة؟
د.ياسر عبدالعزيز
قبل 14 ساعة
على مدى أكثر من عام، أمكنني تجربة عدد من أدوات الذكاء الاصطناعي الشهيرة في أنشطة معرفية، وقد وجدت أن تلك الأدوات تقدم للعالم فوائد كبيرة ومزايا رائعة بكل تأكيد، لكن الثقة التامة فيما تقدمه تُعد نقيصة، لأنها ببساطة تهلوس أحياناً، وتحتال أحياناً أخرى على المستخدمين.
نعم، إن تلك الأدوات تهلوس أحياناً؛ أي أنها تعطي نتائج وإفادات مرتبكة وخاطئة وخارج السياق، كما أن بعضها - خصوصاً المجاني منها - يمكن أن يُلفق، ويُفبرك، ويحتال على المستخدمين، وعندما يتم اكتشاف هذا الاحتيال بواسطة مستخدم حاذق أو مُدرَّب، فإن هذه الأدوات تعتذر، وتلك بادرة جيدة بلا شك، لكنها لا تتوقف عن الاحتيال، كلما وجدت إليه سبيلاً.
ويظهر احتيال عدد من أدوات الذكاء الاصطناعي الرائجة في تلفيق بعض نتائج الأبحاث والدراسات، أو اصطناع أسماء كُتاب ومفكرين ومبدعين ليس لهم وجود في الواقع، أو نسب أقوال إلى مشاهير أحياء وراحلين لم ترد على ألسنتهم أبداً... وأخيراً، فإن بعضها يفهم اتجاه المستخدم، ويستنبط آيديولوجيته، ثم يضبط إيقاع إجاباته عليها.
سيقول المستخدمون المتحمسون للذكاء الاصطناعي إن تلك هي «مشكلات البدايات التي لا يمكن تفاديها»، وسيتذرعون بالتقدم المتسارع في مستوى أداء أدواته؛ للتدليل على أن المستقبل سيحمل كل يوم تقدماً جديداً، وضمن هذا التقدم المُطرد والملموس، «سيتم تجاوز جوانب القصور، وصولاً إلى صيغة استخدام مُثلى وخالية من المخاطر تقريباً».
ويبدو أن هذا التوجه الواثق والمتفائل يشمل ملايين المستخدمين الذين يعيشون في دول نامية في الجزء الجنوبي من العالم، لكنه لم يكن مُقنعاً لهؤلاء الذين يعيشون في البلدان الصناعية المتقدمة، خصوصاً في أوروباً وأميركا الشمالية، الذين أظهروا تجاوباً محدوداً وحذراً مع عالم الذكاء الاصطناعي ومنتجاته في باب الاستخدام، رغم كونهم أصحاب الفضل الكبير في تطويره واجتراحه من العدم.
تلك مفارقة كبرى إذن، يجب أن تكون محل بحث وفحص وتدقيق؛ إذ كيف يكون مستوردو الذكاء الاصطناعي ومستخدموه أكثر تجاوباً وتفاعلاً مع منتجاته مقارنة بهؤلاء الذين ابتكروه وطوروا مُمكناته، واستفادوا من عوائده الكبيرة؟
وفي التقرير الذي أصدرته شركة «كيه بي إم جي»، بالتعاون مع جامعة ملبورن في أستراليا، تحت عنوان: «الثقة والاتجاهات والاستخدامات الخاصة بالذكاء الاصطناعي: دراسة عالمية 2025»، في وقت سابق من العام الحالي، تبرز هذه المفارقة، وتتأكد معانيها؛ حينما تتصدر دول نامية قوائم الثقة، والاستخدام، وتتفوق بمراحل على دول أخرى متقدمة على صُعد التنمية البشرية والدخل القومي والصناعة، بينما تختلف هذه المراتب تماماً، عندما يتعلق الأمر بمعدل القلق من المخاطر ومستوى الشكوك في منتجات الذكاء الاصطناعي.
تقول «كيه بي إم جي» إن ذلك التقرير بُني على دراسة واسعة شملت 48 ألف شخص في 47 دولة، وإنها أُجريت في الفترة من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، إلى منتصف يناير (كانون الثاني) 2025، للتعرف إلى معدلات الثقة، وطبيعة التوجهات، ونمط الاستخدامات السائد لمنتجات الذكاء الاصطناعي في دول العينة، التي توزعت على قارات العالم المختلفة.
ورغم أن معدل الثقة العام في تلك المنتجات لم يتعدَّ نسبة 46 في المائة في مجمل تلك الدول، فإنه صعد صعوداً لافتاً في بعض الدول؛ مثل نيجيريا، والهند، ومصر، والصين، بينما تراجع إلى أدنى درجة ممكنة في دول مثل فنلندا، واليابان، والتشيك، وألمانيا، وفرنسا، وهولندا، وكندا.
وبينما بلغ هذا المعدل نحو 80 في المائة في نيجيريا، فإنه لم يتجاوز 45 في المائة في فنلندا، وفي حين ظهر أن نحو 72 في المائة من عينة البحث يستخدمون الذكاء الاصطناعي في الدول النامية، فإن تلك النسبة لم تتخطَّ 49 في المائة في الدول المتقدمة.
وعلى المنوال نفسه، يُظهر التقرير أن بعض الدول النامية أبدى اهتماماً أكبر بتدريب أفراد المجتمع على استخدام منتجات الذكاء الاصطناعي، بشكل يفوق ما فعلته الدول المتقدمة بمراحل، وهو أمر بدا متسقاً في شتى جوانب التقرير، وخلاصته أن العالم المتقدم أكثر حذراً، وأقل تجاوباً، مع منتجات الذكاء الاصطناعي، وأن العالم النامي أكثر احتفاءً وثقة وإقبالاً، وأقل مخاوف حيال تلك المنتجات.
ثمة خطأ كبير ارتكبته دول العالم النامي - وبعضها يمتلك مقومات مادية وعلمية جيدة - حيال الذكاء الاصطناعي، وهو اكتفاؤها بدور المُستخدِم النشط النهم، الذي لم يُشارك في الابتكار والتطوير بالشكل الكافي. واليوم، يظهر الخطأ الكبير الثاني، الذي يتجسّد في عدم الاحتراز أو التدبر عند استخدام مُمكنات هذا الذكاء الاصطناعي، ومنحها مستوى من الثقة لم يثبت بعد أنها جديرة به، وهو أمر ستكون له عواقب سلبية بكل تأكيد
الشرق الأوسط/
ترددات نوا