المصلحة العامة العراقية تقتضي رحيل الطبقة السياسية الحاكمة

د. عقيل عباس

10/11/2019

وهي تلج أسبوعها الثالث، تُطور حركة الاحتجاج العراقي أساليب جديدة في مواجهة حكومة السيد عادل عبد المهدي جعلت الأخيرة في وضع مرتبك. في الأيام الأولى ركز المحتجون على تحشيد أكبر عدد من الناس في ساحات مركزية وكبرى في المدن المحتجة للمطالبة برحيل هذه الحكومة والطبقة السياسية التي تشكلت منها.

ساهمت الأعداد الهائلة للمحتجين في أن يتجاوز الاحتجاج اختبار التمثيل الشعبي الواسع، ليصنع بذلك إجماعاً عراقياً نادراً تمحور حول ضرورة إنهاء المنظومة السياسية التي برزت منذ ٢٠٠٣.

ترجم هذا الإجماع بزخم سياسي واضح للإطاحة بالحكومة التي بدا أنها على وشك الانهيار بنهاية الأسبوع الأول من الاحتجاجات، لكن سرعان ما تراجع هذا الزخم إزاء الإصرار الإيراني على الدفاع عن بقاء الحكومة، مدعوماً بإحساس الحكومة أنها تستطيع احتواء الاحتجاجات سلمياً عبر ترك المحتجين يحتلون الساحات إلى أن يهزمهم الزمن.

هذا الاطمئنان الحكومي بالقدرة على امتصاص الاحتجاجات تهشم سريعاً عندما بدأ المحتجون بتحويل التظاهر إلى عصيان مدني عبر قطع جسور وشوارع مؤدية إلى حقول نفط ومصافٍ وموانئ فضلاً عن محاصرة مبان حكومية ومنع وصول الموظفين إليها لتتحول الاحتجاجات إلى ضغط سياسي واقتصادي وأمني دائم على الحكومة.

منح التحول إلى العصيان المدني الحكومة أداة دعائية جاهزة ضد حركة الاحتجاج باتهامها بالتخريب وتهديد المصلحة العامة عبر محاولتها إيقاف عجلة الاقتصاد وتعطيل الدوائر الحكومية وإعاقة حركة الناس. التصريحات الحكومية المختلفة سواء من رئيس الوزراء نفسه والناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة، عبد الكريم خلف، كانت لافتة في سعيها لإبراز القائمين بالعصيان على أنهم مجموعة متهورين يضرون بالمصلحة الوطنية التي تجاهد الحكومة في الدفاع عنها بصبر وحكمة.

اندرج القضاء العراقي في جهد الشيطنة هذا في لحظة فشل أخلاقي وقانوني أخرى له عندما ظهر رئيس مجلس القضاء الأعلى، فائق زيدان مع رئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي، ووزيري الدفاع والداخلية وقيادات أمنية في اجتماع "أكد فيه المجتمعون دعم السلطتين القضائية والتشريعية لجهود الحكومة والأجهزة الأمنية بفرض الأمن والاستقرار في عموم البلاد وحماية المتظاهرين والممتلكات الخاصة والعامة والمنشآت الاقتصادية وضمان انتظام العمل والدوام وانسيابية حركة المواطنين". فضلاً عن الخرق الواضح الذي ينطوي عليه هذا الاجتماع لمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، فإن اتخاذ القضاء موقفاً داعماً للحكومة في قضية سياسية يقوض مرة أخرى استقلال القضاء.

ظهر تسييس القضاء على نحو أوضح عندما اجتمع فيما بعد رئيس مجلس القضاء مع مسؤولين قضائيين دعا فيه إلى التعامل مع "جميع من يخرج عن إطار التظاهر السلمي ويرتكب جرائم الاعتداء وقطع الطرق ومنع الموظفين من العمل وارتكاب جرائم الحرق وفق قانون مكافحة الإرهاب النافذ". تكمن المشكلة هنا في تبني القضاء العراقي الموقف الحكومي الإشكالي في تصنيف وتفسير أفعال المحتجين وأداء القوات الحكومية (هل تحمي هذه القوات المتظاهرين فعلاً الذين سقط منهم آلاف القتلى والجرحى بسبب العنف الحكومي ومن هو فعلاً المسؤول عن أعمال الحرق المحدودة جداً أصلاً؟).

أثارت كل هذه التطورات أسئلة مهمة بخصوص معنى المصلحة العامة وعلاقتها بالاحتجاج السلمي. ما هي المصلحة العامة وكيف ينبغي حمايتها عند التعدي عليها ومن يقوم بالحماية؟ تعني المصلحة العامة صيانة حقوق المجتمع المشروعة بتمتع أفراده بالأمن والمساواة وفرص الرفاه الاقتصادي من خلال قوانين ومؤسسات ووقائع تشرف عليها الدولة لتحقيق هذه الأهداف.

في الأنظمة الديموقراطية، يحدد المجتمع ماهية المصلحة العامة عبر آليات حرية التعبير، بما يتمخض عنها من وقائع مؤسساتية كالبرلمان والقضاء، والحكومة التي تتولى تحقيق المصلحة العامة التي عبّر عنها المجتمع. في السياق العراقي شبه الديموقراطي، لا تستطيع الطبقة السياسية الحاكمة أن تحاجج أنها حمت المصلحة العامة العراقية، وبرنامج الحكومة الذي قدمه عبد المهدي للتصويت البرلماني قبل عام رصد المشاكل الجدية الكثيرة التي تعترض تحقيق هذه المصلحة العامة (فساد سياسي ومالي وترد اقتصادي وضعف خدماتي، والفشل في احتكار السلاح وغيرها كثير).

لم يكن متوقعاً ولا مطلوباً أن تحل الحكومة في غضون عام كل هذه المشاكل المعقدة والمتوارثة على مدى سنوات سابقة من الفشل الطويل، لكن كان التوقع أن تخطو الحكومة خطوات جادة لحل بعض هذه المشاكل على الأقل، كما في مكافحة الفساد مثلاً، لتقنع المجتمع بمنحها المزيد من الوقت لتحقيق بعض إصلاحاتها المقترحة. لكن الحكومة فشلت حتى في هذا، فكان الاحتجاج الشعبي الواسع رداً على فشلها في تحقيق المصلحة العامة.

حسب المعايير الدولية التي قبل العراق بها (كما في قبوله بمعظم بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ١٩٤٩ والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي دخل حيز التنفيذ في ١٩٧٤)، يعتبر الاحتجاج السلمي أحد أشكال حرية التعبير التي تضمنها مفهوم حقوق الإنسان. أيضاً هناك إقرار دولي وحقوقي واسع أن العصيان المدني يقع ضمن الاحتجاج السلمي الذي تتعدد أشكاله من تظاهرات واعتصامات وإضرابات وحملات مقاطعة وغيرها.

يختلف العصيان المدني عن أنواع الاحتجاج الأخرى بتضمنه خرقاً لقانون سارٍ، لكن أيضاً ثمة إقرار مواز أن المبدأ الأخلاقي هنا (رفع ظلم أوسع وأكبر) له الأولوية على المبدأ القانوني الخاص (خرق قانون محدد كما في قطع الطرق مثلا). لا يجوز حسب المعايير الدولية استخدام العنف مع محتجين سلميين حتى وإن كانوا يقومون بعصيان مدني يتضمن خرقاً للقانون. المتيسر قانونيا هو إزالتهم من مواقع اعتصامهم أو اعتقالهم على أساس القوانين التي خرقوها، لكن ليس إطلاق النار عليهم قتلاً أو جرحاً أو محاسبتهم على أساس قوانين مكافحة الإرهاب المختصة بالمسلحين والمحرضين على القتل كما يدعو خطأً القضاء العراقي.

السوابق التاريخية في السياقات الوطنية المختلفة أيضاً تدعم خرق قانون سار من أجل مصلحة عامة أكبر. في عام ١٩٧٨ أصدر الخميني توجيهات لتجار البازار الإيراني بغلق السوق للضغط على نظام الشاه. رغم أن إضراب البازار أضر بعوائل كثيرة حينها، قبل الناس حينها بهذه التضحية لأجل مصلحة أعلى هي إنهاء نظام ظالم. بعدها دعا الرجل إلى إضراب عمال النفط وشكل لجنة، وهو في باريس لتنسيق الإضرابات النفطية التي تسببت بمصاعب كبيرة للناس مثل شحة الوقود وانقطاع الكهرباء.

مثال أقرب من العراق: في أثناء المواجهة مع الإنجليز بعد إصدار سبعة من كبار المجتهدين الشيعة فتوى بحرمة المشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي في ١٩٢٢، حشد المراجع الناس ضد الإنجليز والحكومة، وطالبوا، وعلى الأخص الشيخ مهدي الخالصي، بغلق الأسواق في الكاظمية وبقية بغداد ومناطق أخرى في البلد. هذا ناهيك عن تاريخ عراقي مدني كامل من العصيانات والإضرابات التي أضرت بشرائح معينة من الناس تحقيقاً لمصالح عامة أهم حينها، كما في إضرابات عمال الموانئ في البصرة بعد الحرب العالمية الأولى وفي عقد العشرينات، وإضرابات عمال النفط في كركوك وغيرها في الأربعينات.

في لحظتنا العراقية الحالية يبدو أن هناك إقراراً شعبياً واسعاً أن المصلحة العليا للبلد تستلزم رحيل هذه الحكومة ومعها الطبقة السياسية التي أمعنت في التجاوز على المصلحة العامة على مدى ١٦ عاماً مرهقة ومُعذبة من حكم هذه الطبقة.

ترددات نوا

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group