الموازنات الانفجارية!

عبدالزهرة محمد الهنداوي

26/12/2018

لم تعد مفردة الانفجار تثير مخاوفنا، او في الاقل لفت انتباهنا اليها، لأننا على مدى سنوات اعتدنا على التعامل مع مفهوم هذه المفردة عمليا من خلال الانفجارات الكثيرة التي كانت تشهدها شوارع مدننا، .. ولأننا اعتدنا على سماع الانفجارات ، ولكي لا ننساها، رحنا نطلقها على وقائع حياتنا اليومية، آخذين بنظر الاعتبار جانبها «الايجابي»!!، ومن ذلك، ما توصف به الموازنة العامة للدولة لعام 2019 التي مازال مصيرها مجهولا، هل تمضي على وفق الصيغة التي وضعتها الحكومة، ام ان مجلس النواب سيكون له رأي آخر فيها؟.. المهم اننا نسمع اليوم من يصف هذه الموازنة بالانفجارية، بوصفها اضخم موازنة يشهدها العراق في تاريخه، اذ سيبلغ حجم الانفاق فيها اكثر من (132) تريليون دينار، اي نحو (120) مليار دولار.

وهنا ثمة سؤالان يقفزان إلى الذهن، الاول : هل، حقا ان موازنتنا بهذا الرقم الفلكي تعد موازنة انفجارية؟،، وإذا كانت الاجابة نعم، يأتي السؤال الثاني: هل، ستتسبب هذه الموازنة بتفجير البلاد اعمارا وتنمية؟!!

فيما يتعلق بالسؤال الاول، قطعا ان الاجابة ستكون نعم.. فهي انفجارية بنحو «انفلاقي» اذا قارنها بمجموع موازنات الدولة العراقية خلال المدة من 1955 لغاية 1959 التي لم تكن تتجاوز الـ(500) الف دينار – وان كانت (500) الامس لا تشبه (500) اليوم، التي لم تعد تقنع حتى الموظف حديث العهد في الوظيفة، فهو يتظاهر كل يوم مطالبا بزيادة الـ(500) البائسة!!.. اما (500) الخمسينيات فقد احدثت تنمية حقيقية في البلاد تمثلت بتنفيذ عشرات المشاريع الاستراتيجية في شتى قطاعات التنمية، ووضعت اسسا سليمة للبناء لما تلاها من الفترات، -ولكن للآسف، فان مسارات التنمية انحرفت وابتعدت عن تلك الاسس، فكان ما كان من الخراب التنموي المستدام!!.. نعم، هي موازنة انفجارية اذا قارناها مع الـ(9) مليارات دولار التي تمثل موازنة الجارة سوريا ذات الـ(25) مليون انسان مثلا، وهي انفجارية ايضا، اذا قارناها مع موازنة ام الدنيا مصر ذات الـ(100) مليون انسان، اذ بلغت موازنة مصر لعامي 2018-2019 نحو 94 مليار دولار وهي اكبر موازنة في تاريخ الدولة المصرية.. اذن فموازنة العراق ووفقا لهذه المقارنات تعد موازنة انفجارية فعلا، ولكن لا اعتقد ان انفجارها سيحدث اعمارا هائلا في البلاد كما يوحي لنا هذا التوصيف، وإلا، وتماهيا مع مبدأ القياس، فان كل موازنات العراق منذ عام 2010 صعودا تعد موازنات انفجارية، ففي عام 2011 كان حجم الموازنة 96 تريليون دينار وفي عام 2012 بلغت 117 تريليون وفي عام 2013 تناوشت الموازنة الـ(120) تريليون دينار، فيما مر عام 2014 من دون موازنة، ولكن قطعا ان ما تم انفاقه في ذلك العام لا يقل عن 100 تريليون وفي عام 2015 بلغت نفقات الموازنة 119 تريليون دينار على الرغم من ان البلد كان يواجه في حينها ازمة اقتصادية حادة، ظهرت آثارها في موازنة 2016 اذ انخفضت إلى 100 تريليون دينار، ثم في عام 2017 إلى 79 تريليون، ثم عادت لترتفع مرة اخرى عام 2018 إلى 104 ترليونات دينار.. اما في عام 2019 فقد حدد مشروع قانون الموازنة نفقات الدولة بـ(132) تريليون دينار، وهو رقم كما هي ارقام الموازنات السابقة يبدو فلكيا، ولكن، ما هي اثاره الانفجارية في تحقيق التنمية؟ ومتى يمكن عد الموازنة انفجارية فعلا؟.. هل نقيس الانفجار من خلال ما حملته الموازنة من ارقام كبيرة؟، ام من خلال قراءة آثارها التنموية، كما كانت اثار موازنات الخمسينيات؟. فلو كان القياس هو حجم ما تحمله من الموازنة من ارقام، لشهد العراق تطورا يفوق الخيال خلال سنوات قلائل!!

بالتأكيد ان الاثر التنموي هو المقياس، اذ ينبغي ان تقودنا زيادة الانفاق إلى تحفيز الاقتصاد الذي يشهد حالتي انكماش وتباطؤ واضحين بفعل انخفاض اسعار النفط.. اما والحال مع تفاصيل الموازنة، فلا اعتقد ان تغييرا تنمويا مهما سيشهده العراق خلال العام المقبل، اذ ليس ثمة تغيير في مسارات الانفاق، فتخصيصات الجانب الاستثماري مازالت خجولة ومتواضعة بالمقارنة مع الجانب التشغيلي (34) تريليونا للاستثمار مقابل اكثر من (97) تريليونا للنفقات الجارية.. ولا يمكن راهنا تغيير هذه المسارات، لان بين النفقات الجارية توجد الكثير من الخطوط الحمر التي لا يمكن للحكومة (اي حكومة) تجاوزها، ومنها مثلا ما يقارب الـ(60) تريليون دينار تمثل رواتب وأجور موظفي الدولة، وهذه لا يمكن المساس بها، ومنها ايضا (11) تريليون دينار تمثل مبالغ اقساط ألدين العام ومنها نفقات اخرى تتعلق بالجوانب الامنية والصحية والبطاقة التموينية، لتبقى تخصيصات الجانب الاستثماري عاجزة عن تلبية متطلبات التنمية الحقيقة، ولهذا يضطر العراق إلى الاستمرار في الاقتراض، ومعنى ذلك ان الدين العام سيتعاظم على حساب النسبة الطبيعية من الناتج المحلي الاجمالي، لأنه في نهاية المطاف لا يمثل اقتراضا استثماريا ينبغي ان يسهم بتحقيق زيادة في معدلات النمو الاقتصادي والخروج من حالة الانكماش التي يعانيها الاقتصاد الوطني منذ سنوات إلى حالة النمو وتوفير الخدمات.. ولهذا ينبغي اعادة النظر بمنظومة المفاهيم التي تحكم اعداد قانون الموازنة، والسعي للخروج من الهيمنة النفطية باتجاه تنمية القطاعات الاخرى من غير ايرادات النفط، وقطعا لدينا الكثير من المنافذ والممرات التي يمكن سلوكها للوصول إلى مصادر مستديمة للإيرادات المالية، وكل ذلك لا يمكن تحقيقه إلا اذا حررنا مؤسسات الدولة من الاعتماد المطلق على ما توفره الموازنة من دعم لها، وعقدنا شراكة فاعلة مع القطاع الخاص، عدا ذلك ستبقى التنمية رهينة محبسها الحالي وتبقى موازناتنا صوتية الانفجار!.

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group