"وأد الإنـــــــاث"...

د. لاهاي عبد الحسين

03/02/2019

في الوقت الذي يحذر فيه مختصون في مجالات الصحة والقانون والمجتمع من ظواهر خطيرة تهدد سلامة المجتمع يقف في مقدمتها الزواج المبكر للجنسين الذكور والإناث وزواج القاصرات من الإناث حصراً والطلاق بين الشباب على وجه خاص ترتفع أصوات حول ظاهرة جديدة تضيف حلقة لا تقل خطورة عما سبقت الإشارة إليه من ظواهر. تتمثل هذه الأخيرة في تنامي ظاهرة "وأد الإناث" والتي يطلق عليها باللغة الإنكليزية "Female Gendercide".

والوأد قتل الكائن البشري وهو حي أو دفنه وهو حي. يحدث هذا في العراق اليوم بأعداد متزايدة نتيجة شيوع إستخدام تقنيات الكشف عن جنس الجنين بالسونار حيث يكتئب بعض الأزواج ويتخذون القرار الشخصي للتخلص من الجنين إذا كان أنثى. وإذا قبلوا بواقع الحال ورضوا بنصيبهم فإنّ حياتهم الزوجية تصبح جحيماً لا يطاق لمجرد معرفة جنس المولود القادم بعكس ما يتمنون ويرغبون. وبلغ من تصاعد أعداد الأزواج الضالعين بهذه الممارسة أنْ صرحت طبيبات مختصات بإمتناعهن عن إخبار الزوجين بجنس الجنين وبخاصة إذا كان أنثى خشية أنْ يقدما على التخلص منها وهي بعد في بطن أمها أو أنْ يتعصبا دون مبرر عقلاني حسب قناعتهن. يلاحظ أنّ التعرف على جنس الجنين يصبح ممكناً عند بلوغه الشهر الخامس من الحمل. إذا ما علمنا أنّ الجنين يبلغ مرحلة الكائن البشري التي تؤهله للنمو والإكتمال حين إتمامه الشهر الثالث من الحمل في بطن أمه فإنّ أي تصرف لإيذاءه أو التخلص منه يعتبر جريمة جنائية يفترض أنْ يعاقب عليها القانون. يعالج قانون العقوبات المرقم 111 لسنة 1969 وتعديلاته الإجهاض ويفصل ذلك في المواد 417-419 بيد أنّ هذه المواد القانونية لا تتطرق إلى هذه الظاهرة المستجدة التي تتمثل بإستخدام التقنيات الحديثة للكشف عن جنس المولود وما يترتب عليه من سلوك عدواني أو جنائي. وهناك ظاهرة متزامنة أخرى لا تقل خطورة عما ذكر تتمثل بإستخدام تقنية أكثر هولاً على مستقبل الزوجين والمجتمع وهي التي يطلق عليها تقنية "تحديد جنس المولود"، والتي يمكن للزوجين القيام بها قبل الشروع بالحمل لضمان جنس الجنين الذي يفضل أنْ يكون ذكر. 

يعطي إقبال الأزواج للتخلص من الأنثى وهي جنين من خلال الكشف عن الجنس بطريقة الفحص بالسونار إلى جانب إستخدام تقنية تحديد جنس المولود مؤشراً مهماً على مدى إنهيار الإيمان بالقيم الدينية التي تحض على احترام إرادة السماء وقدر الإنسان بإحترام نصيبه في الحياة. كما إنّها تعكس مقدار الوعي والثقافة الاجتماعية في الموقف من الذكورة والأنوثة ضمن بنية عائلية سليمة. فالبنية العائلية السليمة هي التي تضم أفراداً من كلا الجنسين تماماً كما يحدث في رياض الأطفال والمدارس الإبتدائية في دول الرعاية الاجتماعية والدول الأشتراكية سابقاً التي تحرص على تنوع جندر المعلمين والمربين بغية توفير الأجواء الأكثر إنسجاماً مع الواقع الاجتماعي لمساعدتهم على النمو المتوازن والخلاق وفق السياقات الطبيعية. فالطفل الذي يحظى برعاية كلا الجنسين ويتعود عليهما ينشأ نشأة سليمة عكس من يحرم من أحدهما كما يحدث مع يتامى الأطفال.

دينياً يحرم الإسلام وأد الإناث ويحض على رعايتهن كما جاء بقوله سبحانه وتعالى "وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت"، وقوله "لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق". فالمؤمنون المصدقون بتعاليمه لا يقومون بممارسات من هذا النوع لوضوح الموقف الديني منها. الا إنّ تجاهل هذا الموقف الديني الصريح يشير إلى واحدة من التحديات التي يتحتم على المؤسسة الدينية في العراق تناولها ومعالجتها بالحث أو التوجيه والنصح وكل ما يمكن القيام به من إجراءات لحماية البنية الجنسية للمجتمع. تعتبر مهمة المرجعيات الإسلامية على هذا الصعيد أسهل بكثير من مهمة مرجعيات دينية أخرى تتخذ مواقف مختلفة كما في البوذية التي تعتقد بفكرة التناسخ وإعادة ولادة الإنسان الذي تعرض للوأد من جديد مما لا يستدعي القلق بحسبها. ففي الموقف الإسلامي المعارض للوأد عامل مساعد يسهل أمر القيام بمحاربة هذه الظاهرة المتوحشة وغير الإنسانية. كما إنّ لهذه الظاهرة دلالة مهمة أخرى لا تقل خطورة عن إهمال القيم الصحيحة لسلامة وأمن المجتمع وهي التي تتعلق بالعطب الذي أصاب المنظومة القيمية والاجتماعية العامة التي لا تهتم بالإنسان ككينونة جوهرية بمثل ما لا تهتم بصحة المرأة الحامل وما يترتب على توريطها بهذه الممارسة من خطورة فسيولوجياً وذهنياً وبما يطبع وعيها وتصورها عن نفسها. فالمرأة في بيئات تعاقبها على ما لا دخل لها فيه تتشرب بتصور سلبي عن ذاتها كونها لا تزيد على أنْ تكون آلة للإنجاب وليس إنساناً لديه نصيب في العيش الرغيد وحق بممارسة الحياة الإنسانية الطبيعية. 

يذكر إنّ ظاهرة وأد الإناث في العصر الحديث تنتشر على نطاق واسع في جنوب وشرق القارة الآسيوية في مناطق من الصين الشعبية والهند والباكستان وكوريا وتايوان. ويقدر عدد حالات وأد الإناث في العالم اليوم بعشرة ملايين حالة سنوياً. وكان أنْ ترتب على إنتشار وإستمرارية ظاهرة وأد الإناث أنْ أنذرت مجتمعات محلية بكاملها بمخاطر الإنقراض. فقد أرتفعت نسب العزوبية بين الرجال في قرية صينية بسبب عدم توفر فتيات في سن الزواج للإقتران بهن. وجدت في هذه القرية شريحتان رئيسيان هما شريحة كبار السن من النساء والرجال ممن هم بمنزلة الأبوين وأكثرية من الرجال الشباب في الثلاثين وما يزيد من العمر من غير المتزوجين ليس بإرادتهم ورغبتهم وإنّما لعدم توفر ما يكفي من النساء النظيرات. ولهذا أضطرت الحكومية الصينية إلى إصدار قرار منعت بموجبه استخدام تقنية تحديد جنس المولود منذ عام 2002 لمواجهة الجدب الأنثوي سكانياً. وتنبأت الجمعية الصينية للسكان بأنّ (30) مليون شاب ذكر لن يجد إمرأة يتزوج بها بحلول عام 2050. وهذا ما دعا الحكومة الصينية إلى إستبدال "سياسة الطفل الواحد" التي شرعتها في سبعينيات القرن الماضي للحد من نمو السكان والسيطرة عليه بـ "سياسة الطفلين"، في محاولة لوقف ممارسة وأد الإناث. وكانت سياسة الطفل الواحد في الصين التي أستمرت لما يقرب من الخمسين عاماً تسببت بمآسي إنسانية قتل فيها الكثير من الأجنة الإناث رغبة بالحصول على جنين ذكر أو الطلاق سعياً لذات الهدف أو بحجته. هذا إلى جانب الحاجة لعدد كبير من الأطفال لأغراض العمل الزراعي مما تسبب بإفقار قرى بكاملها لم يكن أمامها غير أنْ تفلح الأرض وتعيش على ما تفيض به عليهم بكدحهم وجهدهم. 

في العراق المنشغل بمشاكل وتحديات شتى تنحت مثل هذه القضايا جانباً لتصيب المجتمع بمقتل دون أنْ تلقى ما تستحق من الإهتمام. فلا تكاد تعي الغالبية العظمى من السكان الخطورة التي تترتب عليها بدليل السؤال عن جنس المولود القادم دون وقفة تذكر عند ما يترتب على مجرد معرفة جنسه. معروف أنّ الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988) ساهمت بإحداث خلل بنيوي في التركيب الجنسي للسكان مما أدى إلى زيادة أعداد الإناث بالمقارنة إلى أعداد الذكور وبالتالي انخفاض معدل الجنس الذي يحدد بعدد الذكور لكل مائة من الإناث. وزادت الظروف السياسية اللاحقة من اضطرابات وعدم استقرار وهجرة من وطأة ذلك على السكان وأحوالهم الاجتماعية. 

هذه قضية تتحرك على أكثر من مسار. اجتماعياً، يظهر أنّها تمارس من قبل السكان في المناطق الحضرية كالمدن ومراكز المحافظات أكثر مما يحدث في المناطق الريفية والشعبية الفقيرة. يحاول هؤلاء التدخل لصنع ما يريدون بالمال وإستخدام الإستشارة الطبية معبرين بذلك عن تحكم النظرة الدونية للمرأة بمنظورهم. هذا على الرغم من تنامي الأمثلة الممتازة لأداء الفتيات والنساء على مستوى العمل والإنجاز والوفاء للعائلة وإحترام قواعدها. وتفصح سلوكيات من هذا النوع عن مواقف العديد من الأزواج ممن يسمحون لتطلعات زائفة لا أساس لها للتحكم بمقاييسهم من خلال إشاعة التوتر والإضطراب في حيواتهم. وسرعان ما يؤدي هذا السلوك إلى أنْ تنقلب الزيجة التي يفترض أنْ تكون صالحة من واحة للأمان والسلام والدعة والإستقرار إلى ساحة للنزاع والتجهم وربما العراك شبه الدائم الذي تتحمل المرأة فيه العبء الأكثر ثقلاً. من جانب آخر تسلط هذه القضية الضوء على الدور السلبي للمنظمات والنقابات المعنية والتي تقف بلا حراك وفي مقدمتها نقابة الأطباء ونقابة المحامين ممن يتوجب عليهما تحمل مسؤولياتهما الاجتماعية للبت فيها والمساهمة بلفت نظر الأزواج إلى مخاطرها.

يبدو أنّ المجتمع بحاجة إلى حملة تعمل على إحياء المشاعر الإنسانية والأخلاقية تجاه الإناث وتقدير مكانتهن فيه. فالعبء الاقتصادي والاجتماعي للأنثى لا يزيد على العبء الاقتصادي والاجتماعي للذكر في بواكير حياتيهما الا أنّهما وبخاصة إذا ما أحسن تعليمهما والعمل على توفير الظروف التي تمكنهما من قيادة حياة اجتماعية ناجحة وخلاقة يمكن أنْ تحولهما إلى رصيد لا يستغنى عنه. وهذا ما يتطلب التركيز عليه بدل التطير من جنس المولود أو التدخل المنظم والقسري لتحديده.

ترددات نوا

Copyright © 2017 - Radio Nawa. Designed and Developed by Avesta Group